جرت العادة في مصر أن زيارة القدس للمسيحيين كانت في أهمية زيارة مكة بالنسبة للمسلمين. ومثلما أن كل من قام بإداء فريضة الحج يكتسب لقب “الحاج” فلان الفلاني، فإن كل مسيحي قام بزيارة القدس يكتسب لقب “المقدِّس” فلان الفلاني (بكسر الدال) لكي يعرف الجميع أنه نال شرف زيارة القدس. ولذلك بعد أن رجعت من زيارة القدس، فإن بعض الخبثاء من أصدقائي أطلقوا على لقب “المقدِّس” سامي البحيري، ولقد رحبت بهذا اللقب!
وما حدث أيضا أن معظم الأهل والأصدقاء وزملاء العمل في الشركة جاءوا للسلام على وتهنئتي بالعودة سالما وكأنني كنت مشتركاً في الحرب، أو كأنني كنت عائدا من المريخ مثلا! وأخذت أصف لهم مشاهداتي وانطباعاتي كأول شخص من العائلة أو من شلة الأصدقاء يزور إسرائيل وفلسطين. حكاياتي لم تخلُ من المبالغة طبعاً، لأن الحكايات لا تحلو إلا بشيء من المبالغة. وعلى رأي عمنا الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين :”لا تُفسد حكاية جميلة بذكر الحقيقة”!
وكان أهم سؤال وجّهه لي الأهل والأصدقاء هو « كيف تعاملت مع اليهود؟ ». وكأن اليهود مخلوقات فضائية (وأنا طبعا وجدت لهم المبرر لأني أنا أيضا كنت أعتقد أن اليهود مخلوقات فضائية لا تشبهنا في شيء)!
وعندما رجعت إلى مقر الشركة قابلت مستر (بيتر هيجادوس) مدير الشركة ورئيسي المباشر فأخبرني أن الشركة قرأت تقريري عن زيارة القدس وغزة وقررت الإستمرار في الإشتراك بالمناقصة، وبأنه من المنتظر أن تصلنا مستندات ومخططات المشروع بالبريد المستعجل من أمريكا خلال أسبوع.
(يرجى العلم بأنه في هذا الوقت من عام 1994 لم يكن هناك إنترنت ولا إيميل ولا تليفونات موبايل وكل تلك الأدوات التي أصبحت اليوم العصب الرئيسي لأي عمل أو تسلية أو حتى أي علاقة شخصية).
وعندما وصلت مخططات المشروع إلى الشركة، قامت أدارة المناقصات والعقود بالشركة بمراجعتها لمعرفة حجم المشروع. وبعد عدة أيام أخبرني مستر (بيتر) بأنه يجب على الذهاب فورا مرة أخرى إلى غزة مع أحد مهندسي إدارة المناقصات، وكرر تهديده لي مرة أخرى قائلاً: “إذا لم تفُز بهذه المناقصة، فالأفضل لك أن تظل في غزة”!! وقامت إدارة المناقصات بتعيين المهندس هاني رشدي للذهاب معي (وهاني من أفضل الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي، سواء من الناحية المهنية كمهندس أو من الناحية الإنسانية كصديق، وما زلنا أصدقاء حتى اليوم).
وهذه المرة قررت أن أذهب بالسيارة التي خصصتها لي الشركة، وأذكر أنها كانت سيارة شيفروليه اكسبلورر، وقمت بقيادة السيارة من منزلي بالمعادي إلى منزل المهندس هاني رشدي بمصر الجديدة، ومررنا كالعادة في نفق الشهيد أحمد حمدي أسفل قناة السويس (وأذكر مرة أخرى في هذا الوقت لم يكن لدينا جي بي أس أو خريطة جوجل) ولكننا كنا نسير ببركة دعاء الوالدين فقط!
وعبرنا هذه المرة معبر رفح بطريقة أكثر سلاسة وذلك لأن التوتر الذي حدث في زيارتنا الأولى (نتيجة الهجوم الإرهابي الإسرائيلي على الحرم الإبراهيمي في الخليل) كان قد خف كثيرا، وأخذت تصريحا خاصا لتسيير سيارتي داخل فلسطين وإسرائيل وكنت أقود برخصة قيادة شخصية صادرة من ولاية فلوريدا بأمريكا.
ودخلنا من معبر رفح مباشرة إلى قطاع غزة بدون دخول إسرائيل، وفي الطريق من رفح إلى مدينة غزة نفسها وجدنا بعض حقول الحمضيات في الجهة الشرقية من القطاع ومنازل متناثرة وطرق معبدة يلزمها الصيانة.
وشعرت بالحزن للمرور بقطاع غزة لحالة السكان الذين أصبحوا أشبه ما يكونوا في سجن كبير، ليس لديهم مطار أو ميناء أو أي وسيلة مستقلة للخروج من هذا السجن الكبير، لا هم يتبعون مصر، ولا هم يتبعون إسرائيل، لا يستطيعون الحصول على هوية مصرية أو هوية إسرائيلية (حتى لو أرادوا)، وقد لاحظت العناء والإهانات التي يتحملها أهالي غزة عند العبور من أو إلى مصر (سواء من الجانب المصري أو الجانب الإسرائيلي)، لو حدث حادث إرهابي واحد سواء في إسرائيل أو سيناء فسوف يتحمل شعب غزة العقوبات الجماعية التي قد تقوم بها أيا من مصر أو إسرائيل.
…
وقطاع غزة له حدود جنوبية مع مصر تبلغ 11 كيلومتر وله حدود شمالية وشرقية مع إسرائيل تبلغ 55 كيلو متر، ويحدها من الغرب البحر الأبيض المتوسط بطول حوالي 43 كيلومتر، ويعتمد إقتصاد قطاع غزة على الصناعات الصغيرة العائلية وكذلك الزراعات الصغيرة، واقتصاد غزة متأثر بدرجة كبيرة بالحصار المتقطع (حسب الحالة الأمنية) من جانب كلا من إسرائيل ومصر، ومتوسط دخل الفرد في غزة رقم 164 عالميا (بمعنى أن هناك 163 اقتصاد في العالم أعلى من إقتصاد غزة) والعملة المستخدمة في قطاع غزة هي الشيكل الإسرائيلي.
وإقتصاد غزة يعتمد بالدرجة الأولى على إسرائيل ثم على مصر (وما فيش أنيل من ستي إلا سيدي)!!
…
وصلنا مدينة غزة بعد حوالي ساعة بالسيارة من رفح، ووجدنا ترجيبا من معظم أهالي غزة عندما شاهدوا سيارة عليها أرقام ولوحات مصرية وهو أمر نادر الحدوث منذ هزيمة عام 1967 بعد أن إستولت إسرائيل على قطاع غزة، وسألنا عن أفضل فندق في مدينة غزة فقيل لنا أنه فندق فلسطين ويقع مباشرة على البحر المتوسط، وبالفعل ذهبنا إلى الفندق ووجدنا أنه فندق صغير وجميل وصاحبه رجل محترم (نسيت أسمه للأسف) رحب بنا ترحيبا كبيرا كمصريين. وأخذنا غرفتين غرفة لي وغرفة للمهندس هاني وكلاهما تطل على البحر مباشرة، مما جعل إقامتنا في الفندق إقامة ممتعة.
وبالرغم من قسوة الحياة في غزة، إلا أننا وجدنا معظم الناس متفائلين ومرحبين بنا بصفتنا مصريين أولا، وأيضا لأننا قادمون بأمل التنمية وبناء مشروعات جديدة وبث استثمارات جديدة. ووجدت أن أغلبية الناس ناس عاديون مثل كل أنحاء العالم يهتمون بالأسرة وبمصدر رزقهم ومتدينين بالفطرة بدون تعصب أو تطرف.
…
وبعد أن استطلعنا المنطقة حول الفندق لكي نرى كيف سنأكل وأين سنقضي وقتنا بعد العمل، اكتشفنا أن أفضل مكان للأكل هو مطعم الفندق، وأفضل مكان للفسحة هو الشاطيء أمام الفندق، حتى أننا أحيانا كنا ننزل البحر عندما كان الجو يسمح.
…
وبدأنا العمل بعد يوم من وصولنا. وأخذ المهندس هاني في دراسة المخططات لمعرفة كمية المواد والعمالة والمعدات التي سوف نحتاجها للمشروع. ومن جهتي بدأت أنا في دراسة معلومات عن الموردين والمقاولين المحليين، وكذلك الموردين في مصر وإسرائيل. (ومرة أخرى أذكر القاريء بأننا كنا نفعل كل هذا بالإتصالات الشخصية بدون موبايل وبدون سؤال الحاج جوجل عن كل صغيرة وكبيرة، ولا أدري كيف كنا نفعل كل هذا بدون كل هذه التكنولوجيا والتي غيرت حياتنا في الربع قرن الأخير).
وكانت الصعوبة الكبيرة هي كيفية نقل المواد والمعدات المطلوبة، لأننا نتعامل مع سلطة فلسطينية محلية ناشئة ولم تأخذ شكل الحكومة المستقرة بعد. وكذلك مع سلطة إسرائيلية، حيث سنضطر لشراء بعض المواد والمعدات من إسرائيل وكذلك مع سلطة مصرية حيث سنستورد بعض المعدات والمواد من مصر. كذلك، فإن مهندسي المشروع سوف يحضرون من مصر، ولم تكن هناك بعد نظام لعمل تصريح عمل للمهندسين أو تأمين صحي عليهم أو تأمين ضد إصابات العمل، أو التأمين على المشروع ضد الحريق أو التخريب أو السرقة! حيث أن شركات التأمين المصرية والإسرائيلية رفضت التأمين على المشروع وعلى العمال! وأيضا، ناقشنا فتح حساب في البنوك في غزة، وتمكنا من فتح حساب لدى فرع بنك القاهرة في غزة، على أساس أنه كان لشركتنا حساب في بنك القاهرة في مصر. أما بخصوص العمالة الماهرة وغير الماهرة فلم نجد صعوبة في ذلك حيث أن العمال الفلسطينيين المهرة وغير المهرة في غزة كانوا متوفرين بكثرة.
والصعوبة الأخرى كانت في وضع أسعار لتلك المواد والمعدات وللعمالة. وكانت التعليمات لدينا بأننا يجب الفوز بهذا المشروع بأي سعر، لأننا كنا نعتقد في هذا الوقت أن فلسطين بعد إتفاقية أوسلو سوف تشهد تنمية عمرانية كبرى، وشركتنا كانت متخصصة في بناء البنية التحتية الهندسية مثل محطات كهرباء ومحطات مياه ومحطات صرف صحي والمواني والمطارات. وكان من المنتظر أن فلسطين سوف تحتاج إلى كل هذه المشروعات، وأن المساعدات الإقليمية والدولية سوف تنزل (ترخ) فوق رؤوسنا على هيئة مشاريع كبرى، لذلك كان لا بد من الفوز بهذا المشروع الصغير. ورغم أنه خارج تخصصنا، إلا أنه سوف يكون بالنسبة لنا بمثابة حقل تدريب. وحتى لو خسرنا بعض الأموال في هذا المشروع الصغير، فلا يهم لأن أعيننا كانت على المشروعات الكبيرة القادمة والتي لن نجد فيها منافسة كبيرة، وسوف يكون لدينا ميزة أكبر من الشركات الأجنبية الأخرى، حيث أنه سوف يكون لنا وجود على أرض فلسطين.
وبعد عشرة أيام من العمل المتواصل داخل « فندق فلسطين » لتجهيز عرض أسعار المشروع، تمكننا من الإنتهاء من العرض في نفس اليوم المخصص لفتح المظاريف. ووصلنا أنا والمهندس هاني إلى رقم مقطوع للمشروع يبلغ إثنين مليون دولار، وهو كما ذكرت مشروع صغير نسبيا، وإستأذنت من المهندس هاني وأخذت مظروف عرض الأسعار إلى غرفتي لوحدي وجعلت سعرنا 1,999,900 دولار، أي أقل من السعر الذي إتفقت عليه مع المهندس هاني بمائة دولار فقط!
وذهبنا إلى مبنى إدارة الإسكان في غزة والمكان المخصص لفتح مظاريف عروض الأسعار، وكان هناك عدد من الشركات الفلسطينية، وكنا نمثل الشركة الأمريكية الوحيدة الموجودة. وكانت المفاجأة بأن سعرنا كان أقل سعر في المشروع، وكان السعر الثاني بعدنا هو سعر لمقاول فلسطيني وكان سعره 2 مليون دولار بالضبط!! أي أننا كنا أقل منه بمائة دولار فقط.
وكانت مفاجأة كبيرةأن فوزنا بالمشروع كان بفرق مائة دولار فقط عن أقرب منافس! وحقق لنا هذا الموضوع دعاية كبيرة داخل الشركة في القاهرة وفي المركز الرئيسي في ولاية نيوجيرسي بأمريكا. وتكرم المستر (بيتر) مدير الشركة وأعطاني مكافأة رمزية ألف دولار!!
وبعد اجتماع فتح المظاريف تم تهنئتنا على الفوز بالمشروع، وقيل لنا بأن ننتظر النتيجة الرسمية والتعاقد النهائي.
وبعد الاجتماع قررت أنا والمهندس هاني، إحتفالا بفوزنا بالمشروع، أن ننزل ونسبح في البحر أمام « فندق فلسطين » وهو نفس بحر العريش والإسكندرية.
…
وفي اليوم التالي عدنا بالسيارة إلى القاهرة، واستقبلونا في الشركة استقبال الأبطال مثل “اللي جاب الديب من ديله”!
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة السادسة، المشروع بمعسكر جباليا بمدينة غزة