قَبِِلَ الوزير فهمي برفع الحصانة ثم تراجع. فمن أجبره على التراجع؟ وكيف سيكون المسؤول مسؤولاً إذا وُضع فوق القانون؟ من سيحاسبه على أخطائه الممكنة؟
لا يطالب أهالي الضحايا بأكثر من تحقيق قضائي جدي مع المسؤولين لتأخذ العدالة مجراها. فيماطلون برفع الحصانات، في وقت تتناقل وسائط الاعلام فيديو يعترف فيه النائب غازي زعيتر، المطلوب للتحقيق: ان الجميع يعلم، هو ومن كان قبله ومن جاء بعده جميعهم يعلمون، دخلت الباخرة في شهر 11. مستنتجاً : « ليس الموضوع موضوع بتعرف او ما بتعرف »!
طبعاً ليس “أخذُ العلم” هو الموضوع في بلد محتل، فالسلطة في مكان آخر. هنا يصح تعليق أحدهم: « انتم لستم عملاء فقط، انتم أعداء الوطن ».
سلطة مجرمة، بدل أن تعتذر من اللبنانيين وتكرم الضحايا وتقيم لهم نصباً وتعالج المتضررين وتعوضهم؛ تواجه الأهل وتخنقهم، بقنابل الغاز المسيل للدموع والعنف.
عندما تقف بين الأهالي تغمرك مشاعر تعجز عن تسميتها او حصرها وتعجز عن حبس دموعك، فتضغط على صدرك وحنجرتك كي لا تنفجر. تتمعن في صور شابات وشبان كقلب النهار. يشدك شعر غايا الذي يحضن وجهها كتاج، كانت احتفلت بعيدها الـ 28 قبل الانفجار بأسبوعين. ويعتصر قلبك على جسيكا بيزجيان ابنة 22 ربيعاً وأصغر ممرضة قتلت منذ الحرب العالمية الثانية. روان ذات العشرين ربيعاً، الموديل الفاتنة، التي أرادت زيادة دخلها فعملت في مقهى في جوار المرفأ. ومحمد دمج المهندس الشاب العاطل عن العمل، كلفته الـ 800 ألف ليرة شهرياً حياته. يا للرخص!
وغيرهم 211 ضحية، عدا الجرحى. لكل منهم حكاية لحياته التي انتزعت منه. تكاد السلطة تؤنب الضحايا لتواجدهم في جوار المرفأ لحظة الجريمة.
يقف محمد دقدوقي صامتاً متكئاً على عصاه. فقد ساقه وعينه وتعطلت ذراعه ويده اليمنى بكاملها ولا تزل تحتاج الى علاج. يشير الى ساقه المبتورة التي استبدلتها ساقاً صناعية تحتاج الآن الى تغيير سيليكون. يجب ان يدفع 150 دولاراً (« فريش »). يسأل « من أين » ؟
الشابان محمد دقدوقي وإبراهيم الزين يعملان في شركة BCTC، المسؤولة عن تفريغ البضائع في البور والمهددة بالتوقف لعدم قدرتها على تحصيل أموالها من المصرف المركزي لشراء قطع غيار. تكفلت هذه الشركة بعلاجهما، وليس الدولة. ابراهيم اصيب في جميع انحاء جسمه وتعطلت ذراعه بكاملها ولا يزال يحتاج العلاج الفيزيائي. قذفه الانفجار من العنبر رقم 12 الى العنبر رقم 15 ونجا بسبب اطفاء ماء البحر للحريق. عولج هذان الشابان على نفقة الضمان الاجتماعي، وكان عليهما دفع حصتهما من العلاج، فتكفلت الشركة بذلك!!
إن ما يحصل مع أهالي ضحايا انفجار المرفأ ومع الجرحى والمصابين الذين لا يزالون يعانون حتى الآن أمر لا يصدقه عقل. لم تتكفل الدولة لا بتعويض ولا علاج ولا متابعة. وتستكمل إجرامها الآن بمواجهة من يطالب بالتحقيق ورفع الحصانات.
حوّلوا الحصانة إلى جريمة اضافية في سجلهم الحافل.
وقفت ندى عواد، خالة جو بو صعب المتطوع في الدفاع المدني، ورالف ملاحي شهيد فوج إطفاء بيروت، تعبر بلسان الأهالي الغاضبين ولسان كل لبناني شريف عن استمرار تحركهم: « كل يوم هيك، لاحقين ولادكم ونسوانكم وولاد ولادكم.. »، من رئيس البلاد إلى زعيم حزب الله إلى رئيس البرلمان “لكل واحد بدون استثناء؛ مش اذا هو له يد، كمان اذا بيعرف بالموضوع وكان ساكت، بدك تنطال وآخرها نحنا ناطرين القاضي بيطار شو بدو يعمل. بس برجع بوعدكم انا وعد شرف آخر شي بسلاحنا نازلين ما عنا شي نخسره ولادنا ما في حدا منهم هون، مصرياتنا سرقتوهم، وبلدنا دمرتوه، وصرنا تحت الاحتلال الايراني. مش خسرانين شي بسلاحنا نازلين ليكم..”.
إن ما يجب التأكيد عليه هنا، أن تفجير مرفأ العاصمة بيروت الذي هدم أكثر من ثلثها، وما نتج عنه من قتلى وجرحى ومشردين، ليس قضية أو شأناً خاصاً يتعلق بالمصابين والمتضررين فقط. القضية ليست قضية الأهالي وحدهم. انها قضية لبنان ككل، وقضية كل مواطن\ة وكل ثائر\ة. انها قضية مصير الوطن والمواطنين.
في العام 2004 راجعت كتاب الياباني نوتوهارا “العرب بعيون يابانية” الذي تحول الى ايقونة. اكثر ما هزّني استغرابه لعدم اكتراث الناس الذين يفقدون الشعور بالمسؤولية تجاه السجناء السياسيين، الافراد الشجعان الذين ضحوا من اجل الشعب. ويتصرفون مع قضية السجين السياسي على انها قضية فردية، على أسرة السجين وحدها ان تواجه اعباءها. وهذا اخطر مظاهر عدم الشعور بالمسؤولية. فلقد زار خمس مرات تدمر (سوريا) دون ان يعرف ان فيها سجنا مشهورا. وكان لا يزال في العام 2003 تاريخ صدور كتابه لا يعرف موقع هذا السجن بسبب الخوف الذي يحيط به. فعند السؤال عن أي سجن، يخاف الشخص ويهرب. كأن الامر يتعلق بسؤال عن ممنوع او محرم. الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة. وهكذا تضيع الحقيقة وتذهب الى المقابر مع اصحابها. وتصل سوريا الى ما وصلت اليه.
لذا قضية أهالي ضحايا المرفأ ليست قضية خاصة بهم. كما أن كل من اغتيل، لمحاولته أن يكشف ملابسات إدخال مواد القتل، كمنير عساف والعقيد ابو رجيلي وجو بجاني ولقمان سليم، هو قضيتنا الشخصية. أيضاً سجناء الرأي والناشطين والصحافيين وغيرهم ممن تضيق السلطة بكلمات الحق التي ينطقون بها، جميعهم قضيتنا.
إن من واجب الثوار الذين لا يزالون يتحركون على الارض ومن واجب كل لبناني سبق له وشارك بثورة 17 اكتوبر وكل لبناني متضرر من الوضع الذي نحن فيه، ان يشارك في دعم أهالي الضحايا، كل يوم وكل ساعة كي يرفعوا الحصانات ويأخذ التحقيق مجراه وكي نطالب بأقصى حماية للقاضي بيطار وبتوسيع التحقيق بإشراف دولي في حال ظلت عرقلة عمله او التأثير عليه مستمرة.
الوصول الى الحقيقة في انفجار المرفأ هو المدخل لاستعادة سيادة لبنان وحريته. لاستعادة دولته من الاحتلال الذي وفّر على العدو حاجته لتدمير لبنان. فوكلاء الاحتلال أقسى وأشرس وأحقد من العدو بتدميرنا وإذلالنا وافقارنا وتهجيرنا وسرقة أموالنا.
وبعد كل ذلك يتحفنا دولة رئيس الحكومة بتعزية الكاظمي بعد حريق مستشفى الحسين، مازحاً لا شك:” نضع إمكاناتنا بتصرفكم في اي مساعدة…!!!
ويرسل قوى الأمن كي تقف بوجه الأهالي بدل ان تقف بوجه التهريب على الحدود.
وها قد بدأت الفوضى المعممة بعد اعتذار الحريري. فلـ« جهنم » رئيس الجمهورية طبقات إضافية على ما يبدو.
monafayad@hotmail.com