نهج الرئيس بايدن الحازم نجح مؤقتاً في منع الرئيس بوتين من تنفيذ مخطط جديد على الجبهة الأوكرانية. لكن من المبكر الحكم على السياسة الخارجية لإدارته وعلى تتمات الحرب الباردة الجديدة.
يواصل فايروس كورونا “حربه العالمية” وينتشر الموت بين شعوب الكوكب الأرضي للسنة الثانية على التوالي، ولكن ذلك لا يمنع احتدام المنافسة الجيوسياسية في المرحلة الانتقالية قبل الدخول في “عالم ما بعد كورونا”. ومن الواضح أن المشهد الدولي بعد مئة يوم على تمركز إدارة بايدن تتصاعد فيه التوترات بين روسيا والغرب، وبين الولايات المتحدة والصين (وحلفائهما). وفي هذا الوقت يستمر الشرق الأوسط مسرحاً لصراعات النفوذ والطاقة وسط تنافس استراتيجيات إيران وتركيا وإسرائيل بالإضافة إلى القوى الكبرى. ويبدو أن مراكز التوتر والمواجهة من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وبحر الصين الجنوبي (مع الساحل الأفريقي وأفغانستان) تنذر ببدايات حرب باردة جديدة وملامح مبارزة بين جو بايدن وفلاديمير بوتين.
منذ أوائل مارس، قامت روسيا بحشد كبير لقواتها بالقرب من الحدود الشرقية لأوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، مما أدى إلى أزمة دبلوماسية حادة، تعتبر من أولى الاختبارات الرئيسية لرئاسة بايدن خاصة أنه كان مسؤولاً عن الملف الأوكراني في منصبه السابق كنائب للرئيس باراك أوباما، والأرجح أن جو بايدن استخلص الدروس من حقبة أوباما الذي قلل من أهمية التهديد الروسي وأسند لألمانيا دور الوسيط.
وربما لهذا السبب واستناداً لتجربته الشخصية وخبراته، يمكن القول إن بايدن سيكون أول رئيس أميركي منذ نهاية الحرب الباردة يصل إلى البيت الأبيض من دون مداعبة وهم “إعادة تفعيل” العلاقة مع موسكو، خاصة أن التسوية السياسية للصراع مع أوكرانيا لم تتقدم منذ اتفاقات مينسك في عام 2015. وفي استجابة لدعوات الرئيس الأوكراني الملحة لمشاركة أميركية أقوى، ها هي واشنطن تستعيد لعب دور الشرطي (أو الجندرما) في أوروبا لأن الوضع أصبح أكثر حساسية بعد الطلب الأخير الذي قدمته أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
تأتي هذه المواقف الأميركية بعد استعراض قوة روسي مع مناورات وحشود ضمت عشرات الآلاف من الجنود، مما جعل الروس في وضع يسمح لهم بالتدخل الواسع في منطقة دونباس شرق أوكرانيا في وقت تحتدم فيه اشتباكات المدفعية بين القوات الأوكرانية والانفصاليين المدعومين في روسيا ضمن نزاع أدى منذ 2014 إلى سقوط 14 ألف ضحية. بالنسبة إلى الغربيين لا تبدو النوايا الروسية واضحة: هل هذه الحشود لمواجهة التطورات الداخلية في أوكرانيا التي يمكن أن تتعارض مع مصالح موسكو؟ أو للرد على تصلب واشنطن، بعد قيام الرئيس بايدن بمنح لقب “القاتل” للرئيس بوتين في الـ16 من مارس الماضي؟
حسب تحليل الأوساط الأوروبية وخبراء السياسة الروسية تندرج التحركات الروسية الأخيرة في سياق “استراتيجية الاضطراب “التي ينتهجها الرئيس فلاديمير بوتين منذ وصوله إلى الكرملين، وتركز هذه الاستراتيجية على نقض قواعد اللعبة من جورجيا في 2008 إلى أوكرانيا في 2014 وسوريا في 2015، من أجل إعادة روسيا إلى قلب اللعبة الدولية، ولكي ينتقم من زوال الاتحاد السوفياتي” الذي يعتبره أكبر خطأ جيوسياسي في القرن العشرين. وقد تمكن بوتين بفضل ضعف أداء إدارتي باراك أوباما و”اختراق” إدارة دونالد ترامب من الإسهام في جعل “العالم أكثر اضطرابا وارتباكاً وتنازعاً” ضمن هدف الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب والأبعاد! لكن هكذا عالم ملائم لطموحات الكرملين حسب تصورات مناهضي روسيا لا يعفي واشنطن والقوى الأوروبية من مسؤولياتها في احتدام الفوضى العالمية وغياب الحوكمة وتصدع العولمة.
في مواجهة الهجمة البوتينية حول أوكرانيا استخدم بايدن سلاح ترامب المفضل ولجأ إلى سلسلة من العقوبات الجديدة في الـ15 من أبريل، والتي تشكل حسب واشنطن رداً على الهجمات الإلكترونية الروسية في 2020 والتدخل الروسي في الحملة الانتخابية الأميركية الأخيرة، وأيضاً من أجل توجيه رسالة تقول بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتنازل أمام خصمها السابق وأنها تقارعه.
هكذا يعد وصول جو بايدن بمثابة تغيير لقواعد اللعبة بالنسبة إلى أوكرانيا، التي تعتمد على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لردع روسيا عن تهديد أمنها وسلامة أراضيها. وفي هذا الإطار يمكن تفسير تصعيد الضغط الدبلوماسي والعسكري الروسي على أوكرانيا جزئيًا بتقارب كييف مع إدارة بايدن التي أوضحت دعمها لأوكرانيا واستعدادها للانخراط من جديد في الناتو. ويعتبر إرسال 500 جندي أميركي إضافي إلى ألمانيا علامة على إعادة استثمار الولايات المتحدة في أوروبا. كما كثّف بايدن من الانتشار العسكري الأميركي في البحر الأسود وأوروبا الشرقية وواصل تسليم الأسلحة الدفاعية غير الفتاكة إلى كييف، التي أذن بها ترامب في عام 2017. وأعلن البنتاغون في أوائل مارس عن مساعدات عسكرية إضافية من 125 مليون دولار (105 مليون يورو) إلى أوكرانيا، بما في ذلك زورقا دورية مسلحان مخصصان للدفاع عن المياه الإقليمية للبلاد.
في موازاة التصعيد على الجبهة الأوكرانية ازدادت عمليات الطرد المتبادل للدبلوماسيين بين عدة عواصم غربية وموسكو. واللافت أنه بعد تحذير بوتين من تجاوز الخطوط الحمراء مع بلده، سرعان ما استخدم المرونة عندما بعثت موسكو أخيراً، بإشارات تهدئة إلى كييف، ومن ورائها حلفاؤها الغربيون، بقرارها أوّلاً سحب قواتها المحتشدة قرب الحدود مع أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، وبإبداء رئيسها، فلاديمير بوتين، ثانياً، استعداده لاستقبال نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في موسكو. وفي حين اعتبرت كييف أن “خفض القوات يؤدي إلى انخفاض نسبي للتوتر”، أعلنت الولايات المتحدة أنها تنتظر “أفعالاً” وليس “أقوالاً”، وأنها “ستواصل مراقبة الوضع عن كثب”. وفي الاتجاه نفسه، جاء رد فعل “حلف شمالي الأطلسي” المشكك.
والملاحظ على صعيد المتغيرات الجيوسياسية اصطفاف أنقرة مع واشنطن في أوكرانيا مما يمكن أن يهدد التفاهمات الروسية – التركية في سوريا وليبيا، ويعيق تحويل المكاسب الروسية (الظرفية والموضعية) في السنوات الأخيرة إلى تركيز نهائي للنفوذ في البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي بعد الاستفادة من ضعف السياسات الأميركية وتلويح واشنطن بالانسحاب من المنطقة.
في الإجمال يبدو أن نهج الرئيس بايدن الحازم نجح مؤقتاً في منع الرئيس بوتين من تنفيذ مخطط جديد على الجبهة الأوكرانية. لكن من المبكّر الحكم على السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي بايدن وعلى تتمات الحرب الباردة الجديدة خاصة في حال التكامل او التناغم داخل الثنائي الروسي – الصيني.
khattarwahid@yahoo.fr