(صورة للجولاني، بالبدلة، مع الصحفي الأميركي مارتن سميث)
يسعى محمد الجولاني قائد « هيئة تحرير الشام »، التي تسيطر على المنطقة الخارجة عن سلطة النظام السوري في محافظة ادلب وريف حلب الغربي، لاظهار منظمته الجهادية بانها تختلف عما تتصورها اطراف محلية وخارجية.
فـ« الهيئة” التي كانت تسمى « جبهة النصرة »، والمصنفة على قائمة الارهاب الدولية، هي انشقاق عن « الدولة الاسلامية » التي هي بدورها احد فروع منظمة « القاعدة ».
انضم الجولاني لقاعدة العراق في العام 2003 الذي شهد احتلال اميركا وانهاء حكم صدام حسين. عمل تحت قيادة ابو بكر البغدادي في العراق حيث سجن لخمس سنوات ثم ارسله البغدادي مع اموال ورجال لسوريا بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية. لكنه انشق عن البغدادي عندما اعلن هذا الغاء اسم كل من جبهة النصرة والدولة الاسلامية في العراق ودمجها في “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش). واعتبر الجولاني منظمته في سوريا التي توسعت وضمت الآلاف مبايعة لزعيم تنظيم القاعدة ايمن الظواهري. وعاد مرة اخرى لينشق عن القاعدة لتصبح “الهيئة” سورية بلا ارتباط باية جهة جهادية خارج سوريا.
عمل الجولاني لاظهار انه تغير في تصريحات واجراءات شكلية مثل محي انصاره لشعارات متطرفة من على جدران في ادلب او ارتداء الجولاني لبدلة كخروج عما يعتبره المتطرفون الاسلاميون تقليدا محرما للغرب الكافر. لكنه في حديثه المطول الاخير مع صحفي اميركي ركز اكثر على تميزه عن المنظمات الجهادية وبالدرجة الاولى ان المنطقة التي يسيطر عليها، وتضم 5 ملايين، لا تشكل تهديدا لامن اوروبا واميركا وللمجتمع الغربي عموما، ليقول ان « الهيئة » لا ولن تنفذ عمليات خارجية وهي ضد قتل المدنيين الابرياء في اي مكان بالعالم، وانه حتى عندما كان في منظمة القاعدة كان يعارض العمليات الخارجية، وان هذا كان موقفه في 11 ايلول عندما هاجمت القاعدة برج التجارة العالمي في نيويورك رغم انه لم يخف “سعادته!” لضرب اميركا التي يعتبر ان سياستها في الوقوف الى جانب الصهاينة ضد المسلمين ومع الانظمة الطاغية ضد شعوبها، سياسة خاطئة ينتقدها دون قبول قتل المدنيين الابرياء كما حدث في “غزوة نيويورك”.اراد ان يقنع الغرب باعتدال “الهيئة” لرفعها من قائمة الارهاب العالمية رغم انه دافع عن العمليات الاستشهادية على انها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها ولكنه نفى استهدافها للمدنيين!
ورأى الجولاني انه يمكن تطبيع العلاقات مع الغرب والتلاقي حول قاسم مشترك هو وقف تدفق اللاجئين السوريين الى اوروبا ووضع حد للازمة الانسانية في سوريا، فالسوريون في منطقته يحتاجون لكل شيء، الماء والدواء والغذاء والكهرباء! وحتى طالب بالتنسيق مع الامم المتحدة في هذه المجالات. كما اعتبر هيئته جزءا “كبيرا!” من الثورة السورية ضد حكم ظالم دون ان يوضح ما طبيعة الحكم الذي يحبذه فيما اذا سقط النظام. دافع عن الشريعة الاسلامية التي يتبناها فقط من زاوية انها تقبل بوجود تجمعات من ديانات ومذاهب مختلفة عن الاسلام، وان تطبيق الشريعة لا يعني استبعادهم. واكتفى بمدح الشريعة بالعموميات بانها “عادلة”، دون الخوض في الدفاع عن تمييزها مثلا ضد المرأة، او ضد الطوائف الاخرى التي رغم عدم استبعاد افرادها ليست لهم جميع حقوق المسلمين في مجالات مختلفة. ففي ظل حكم الشريعة هم مواطنون من الدرجة الثانية. كما لم يتعرض لتكفير الشريعة، كما يفسرها عادة الجهاديون، للديمقراطية وتحليلها قتل الذي يغير دينه، المرتد وغير ذلك …
كما نفى الجولاني تصفية الفصائل المسلحة التابعة للجيش الحر لتأمين هيمنته الكاملة على المنطقة، بل انه صفّاها باعتبارها مجرد عصابات لصوص وقطاع طرق! وهي بالاضافة لتهم التبعية لداعش او العمالة للنظام او لروسيا او التحالف الدولي او شتم الذات الالهية، تهم يمكن ان توجه لاي معارض ضمن منطقته لتكون حجة لتصفيته. كما نفى تعرض هؤلاء للتعذيب والمعاملة الوحشية في سجونه المتعددة ومنها سجن العقاب في جبل الزاوية وسجن حارم وسجن ادلب المركزي. كما تجاهل الاعدامات دون محاكمات والدفن في مقابر جماعية التي وثقتها “الشبكة السورية لحقوق الانسان” ومنظمة العفو الدولية. حتى انه نفى ان لديه سجون كـ « هيئة” !! فهي جسم عسكري بحت فيما السجون تابعة للاذرع المدنية للهيئة “حكومة الانقاذ”، والجسم القضائي كأنها هيئات مستقلة وليس هو الذي عينها كهيئات صورية تتلقى اوامرها من قيادات “الهيئة”. ولم يكتفِ الجولاني بالهيمنة العسكرية من خلال تصفية من يعارضه او لا يتحالف معه، ولا بالهيمنة السياسية من خلال تعيين حكومة انقاذ تتبع لسلطته، بل طال الامر الهيمنة الاقتصادية حيث وضعت “الهيئة” يدها على جميع الموارد الاقتصادية في المنطقة وطردت االمنافسين، فاحتكرت المحروقات والمطاعم والمنتزهات والمولات ومقالع الحجر والتجارة الخارجية ما جعلها التاجر والصناعي الاول في المنطقة.
هل ستعتبر التصريحات وبعض الاجراءات بالنسبة للغرب والعالم تغييرا في سلوك “الهيئة”؟ سيكون الجولاني ومن يواليه سذج ان ظنوا انها ستغير من نظرة العالم له او لمنظمته فتشطبه من قائمة الارهاب ويتم الكف عن ملاحقته. ما يجري لن يعتبر اكثر من محاولة تلميع لصورته البشعة ولن تقنع احدا وليست تغييرا في العمق لآراء ومواقف الجماعة الموصومة بالارهاب عن حق وحتى لو لم تقم بعمليات خارجية فيما تستمر في عملياتها الارهابية في المناطق التي تسيطر عليها بقوة السلاح. لا شيء يضمن ان لا يكون هذا موقفا مرحليا الى ان تتمكن الجماعة اكثر، فمقاتلة العالم الكافر جزء من الشريعة الاسلامية التي تدعي هيئة الجولاني انها تطبقها او ستطبقها مستقبلا.
لن يغير كثيرا من صورة “الهيئة” ادعاء انها جزء اساسي من الثورة السورية للاختلاف الكبير بين اهداف الثورة الشعبية التي نادت بالحرية واستبدال النظام الديكتاتوري الاسدي بنظام ديمقراطي علماني يعطي السلطة للشعب من خلال ممثليه المنتخبين بحرية وشفافية . فاذا كان انتماء الجولاني وهيئته للثورة اتى عن طريق العمل لاسقاط الحكم الظالم، فذلك جزء من اهداف الثورة ولا يصل الى اقامة النظام الديمقراطي. فالشريعة التي سيطبقها الجولاني لن تختلف عن النظام الحالي الا بالشكل حيث سيستبدل استبداد يعتمد على حكم الشخص بحكم استبدادي آخر يعتمد على نصوص يعتبرها مقدسة فيما هي غير صالحة للعصر وتتناقض في معظمها مع حقوق الانسان كما ضمنها الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهود الدولية المتممة له.
التغيير الذي يمكن ان يعتبر حقيقيا، وهو على الارجح شبه مستحيل، يبدأ بتبني اقامة نظام ديمقراطي مدني كبديل عن النظام الاستبدادي الاسدي ليبدأ تطبيقه بقدر ما تسمح به ظروف المواجهة العسكرية في منطقة ادلب وغرب حلب، باطلاق سراح جميع معتقلي الرأي في سجون الهيئة والسماح بتشكيل الاحزاب والتكتلات السياسية والنشاط السياسي بحرية ودون قيود في كافة ارجاء المنطقة والكف عن ملاحقة معارضي “الهيئة” وتشكيل مجلس اداري محلي انتقالي يمثل كافة الاطراف السياسية الى ان تسمح الظروف باجراء انتخابات حرة ونزيهة، يمثل مواطني المنطقة في المفاوضات مع الاطراف الاخرى من اجل حل سياسي للحرب الاهلية في سوريا حسب القرارات الدولية.
لتغيير حقيقي، لا بد ايضا لل، « الهيئة »، ان تكف عن تطبيق الشريعة فعلا او المطالبة بتطبيقها لكونها غير صالحة للعصر. ولتعارضها مع حكم الشعب وممثليه المنتخبين، الذي اصبح من غير الممكن لاي بلد في العالم ان يستغني عنه من اجل تطوره وازدهار مواطنيه. فحاكمية الله التي يروجها الجولاني وامثاله من منظمات الاسلام السياسي نظرية خيالية تعطي السلطة لمن يدعي انه يمثل الله على الارض، ونتيجتها حكم استبدادي لقلة من ما يسمى “علماء” تتستر بنصوص فات اوانها وتقيم استبدادا مماثلا للاستبداد الاسدي وقد يكون اسوأ منه. ومن امثلتها نظام دولة البغدادي الداعشية المنقرض ونظام ملالي ايران الاسلامي الراهن. كما لا بد من انشاء جسم قضائي مستقل من قضاة مدنيين لا “شرعيين” كما هم حاليا يجرون المحاكمات بناء على الاجراءات المتفق عليها في البلدان المتحضرة، لتكن اولى محاكماتها لجميع مرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية لاي طرف انتموا.
بدون مثل هذه التغييرات الحقيقية لن تفلح عملية تلميع الجولاني و”هيئته” لصورتهم امام المجتمع الدولي والاقليمي والمحلي. وسيكون الجولاني كمن يضحك على نفسه او يخادعها فيظن انه بمثل هذه المسرحية يمكن ان يزيل اسمه واسم منظمته من قائمة الارهاب وما يتبعها من ملاحقة.
ahmarw6@gmail.com