هذا المقال لا يتناول الإتهامات الموجّهة الى الثورة. فهي في معظمها إفتراءات لا تستحقّ الردّ. إنما يستعرض بعض الهفوات التي قد يقع فيها الثوار أنفسهم.
الخطأ الأول : تسمية الثورة بالحراك
هناك من يُصرّ على استخدام هذه الكلمة السخيفة. ويلفظها خطأً فوق ذلك. ليس هناك في اللغة العربية كلمة حِراك، بكسر الحاء. وإنما حَراك، بفتح الحاء. وهي كلمة ضعيفة، لا علاقة لها بالسياسة. ومن الأفضل سحبُها من التداول. الحَراك، في اللغة، ضد السكون. لا أكثر. كأن تقول مثلاً : رأيته ممدّداً على الأرض جثّةً هامدة لا حَراك فيها.
كيف دخلت هذه الكلمة اللعينة قاموس السياسة؟ المرة الأولى التي سمعتها فيها كانت قبل بضعة سنوات، في مطلع ما سُمّي بالربيع العربي. جاءت على لسان إحدى المتظاهرات في اليمن، في حديث سريع مع إحدى القنوات الفضائية العربية. فاستغربتها، واعتقدتُ أن السيدة ربما تقصد أن تقول ”تحرّك“، لكنها أخطأت في استعمال الكلمة الصحيحة. وسرعان ما بدأت القنوات الفضائية بإستخدامها. وصارت تتردّد على ألسنة بعض أشباه المثقفين الذين ظنّوا، على الأرجح، أنها الموضة الرائجة.
إستعمال هذه الكلمة عندما نتحدث عن الثورة اللبنانية فيه إجحاف وإنتقاصٌ من قيمتها. ما نشهده ليس تحرّكاً إحتجاجياً عابراً. إنه ثورة بكل ما في الكلمة من معنى.
ما هي الثورة؟ الثورة تغييرٌ واسع النطاق في الأوضاع السياسية والإجتماعية، يفرضه عددٌ كبير من الناس، من خارج الإطر الشرعية، وغالباً ما يترافق مع العنف.
في هذا التعريف أربعة معايير: التغيير، العدد، الخروج عن الشرعية، والعنف. وكل واحدٍ منها يستدعي تعليقاً سريعاً.
أن يكون التغيير المنشود جوهرياً شرط أساسي. أي تغيير محدود الأثر لا يُعتبر ثورة. التغيير الذي تأتي به الثورة يُمكن أن يطال مختلف نواحي الحياة، او أن يقتصر على النظام السياسي. على سبيل المثال، الثورة الروسية (١٩١٧) لم تكتفِ بخلع القيصر بل أدّت الى تغييرات إجتماعية واسعة، مثل إلغاء الملكية الخاصة. بينما الثورتان الإنكليزية (١٦٨٨) والأميركية (١٧٧٥-١٧٨٣) أحدثتا تغييراً في النظام السياسي دون أن تتسبّبا بتغييرات إجتماعية أساسية.
العدد هو أهم ما يميّز الثورة عن الإنقلاب. الإنقلاب تنفّذه مجموعة صغيرة من العسكريين دون مشاركة الجماهير. كذلك، وهنا نعود الى النقطة الأولى المتعلّقة بالتغيير، فإن الإنقلاب غالباً ما يكتفي بتغيير الحكومة او إستبدال الطاقم الحاكم من دون أن يغيّر بالضرورة النظام السياسي او يحدث تغييراً إجتماعياً واسعاً.
التغيير الثوري يأتي من خارج الأطر الشرعية المتاحة، وليس من خلال الإنتخابات. وعادة ما يتمّ تحقيقه بالعنف. لكن العنف ليس شرطاً أساسياً. قد تكون هناك ثورات دون إراقة دماء. والدليل : ثورات أوروبا الشرقية سنة ١٩٨٩، مع استثناء وحيد هو رومانيا.
الثورة اللبنانية، بشعاراتها الطموحة التي تتطلّع الى تغيير بعيد المدى، وبالأعداد الهائلة التي شاركت فيها، وكونها تأتي بعد سنة ونصف من إنتخابات نيابية امتنع فيها أكثر من نصف اللبنانيين عن التصويت، لتقلب عملياً نتائج هذه الإنتخابات، تستوفي بالتأكيد شروط الثورة. أما الطابع السلمي الذي تحرص عليه فلا ينفي عنها مطلقاً صفة الثورة.
الخطأ الثاني : القول بأن للثورة مطالب
هناك من لم يُدرك بعد أننا في ثورة. وما زال يفكّر ويتكلّم وفقاً للعادات القديمة. الثورة ليس لها مطالب. مَن عادة يرفع المطالب؟ والى من تُرفع؟ المتظاهرون الى السلطة. العمال والموظّفون الى الإدارة. المرؤوس الى رئيسه. والضعيف الى القوي.
يرفع المحتجّون المطالب الى السلطة. ويضغطون من أجل تحقيقها. لكننا لسنا اليوم في مظاهرة او إضراب. نحن في ثورة. المعتقد الأساسي لأية ثورة هو أنه لم يعد ممكناً حلّ المشاكل المطروحة بالإصلاحات الجزئية، من خلال الطبقة الحاكمة الحالية، وأنه لا بدّ من تغيير الطبقة الحاكمة نفسها. لذلك فإنه من غير المنطقي أن تطلب شيئاً من سلطة تريد الإطاحة بها.
حتى إذا قلنا أن للثورة حقوقاً، بدلاً من مطالب، فإن ذلك لا يغيّر شيئاً في المعنى. ففي الحالتين، أنت تسأل من هم في السلطة أن يتكرّموا عليك بما تعتقد أنك تستحقّه.
الثورة لها هدفٌ وحيد: السلطة. وليس أقلّ من ذلك. إقامة السلطة البديلة. السلطة لإحقاق الحق.
الخطأ الثالث : التخوّف من المفاوضات
هدف هذه الثورة هو الإنتقال السلمي للسلطة. وهذا الأمر يحتاج الى ترتيب. والترتيب يتم بالتفاوض.
لا ينبغي التوجّس من المفاوضات. فليس فيها في حدّ ذاتها شيء معيب. المفاوضات ليست بالضرورة مرادفاً للإستسلام. عند انتهاء الحروب، يجلس المنتصرون والمهزومون على حدٍ سواء على طاولة المفاوضات. العيب هو في التفاوض خِلسة، دون تفويضٍ من أحد، كما يفعل الإنتهازيون الذين يحاولون تسويق أنفسهم للحصول على المناصب. او في التفاوض قبل الأوان، قبل أن يكون الخصم قد أصبح منهكاً ومستعداً للتنازل. او في التفاوض بشكل سيّء، والقبول بعروضٍ ملغومة يُمكن الحصول على أفضل منها.
الخطأ الرابع : التهرّب من التنظيم
عفوية الثورة، وحقيقة أن لا قيادة لها، كانت مفيدة في المراحل الأولى. وسمحت بانتشارها في كافة المناطق. لقد سارت الأمور كما في إقتصاد السوق، وكأن هناك يداً خفيّة تملأ الثغرات وتؤمّن نوعاً من التصحيح الذاتي.
لكن علينا أن نعترف أن هذه العفوية التي نجحت بأعجوبة حتى الآن بلغت اليوم حدودها القصوى. إن غياب التنسيق بعد مرور سبعة أسابيع على انطلاق الثورة أصبح عائقاً أمام مزيدٍ من التقدّم. وقد يتسبّب بتعثّر الثورة او وصولها الى طريقٍ مسدود. فهو يشتّت الجهود. ويؤدّي الى تنافس غير سليم بين المجموعات. وفي لحظاتٍ قادمة، سوف تحتاج الثورة لأن تقول كلمةً واحدة في مواجهتها مع السلطة.
ينبغي العمل على جمع قوى الثورة، على امتداد الوطن، في إطار تنسيقي عريض يضمّ ناشطين لهم تأثير في محيطهم وشخصيات ذات قيمة فكرية ومعنوية. ستكون مهمّة هذا المجلس أن يرسم التوجّهات السياسية العامة للثورة ويُراقب عملها. وتنشأ عنه لجان عمل متخصّصة للقيام بالمهام اليومية. وهو سيكون بمثابة عقل الثورة وذراعها.
الخطأ الخامس : العداء المطلق للأحزاب
عدم القدرة علي التمييز بين الأشياء المتشابهة، ووضع كل شيء في خانة واحدة، هي من خصائص الذهن البليد. وهي خطيئة كبرى في السياسة.
الشعار الشهير الذي غالباً ما يهتف به المتظاهرون في لبنان، والذي لم أستحسنه يوماً، ”كلن يعني كلن“، يُمكن تفسيره على أكثر من وجه. في ظاهر الأمر، وفي التفسير المخفَّف، يُمكن أن يعني أن ما من أحدٍ من السياسيين فوق النقد او فوق الشبهات، وأن هذا الزعيم او ذاك ليس استثناءً لا يُمسّ. إذا كان هذا هو المعنى المقصود، فلا بأس. أما إذا كان القصد أن الشعب الثائر يجب أن يكون في حالة عداء دائم مع الأحزاب وجمهورها، وأنه يجب نبذ الأحزاب، والإعتراض عليها إذا تعاطفت مع الثورة، والتحذير من أنها قد تخطف الثورة، وكأن الثورة قاصرة وبلهاء، فهناك الكثير مما يُمكن أن يُقال. دعنا نضع جانباً الإستعلاء الذي ينمّ عنه هذا الموقف، والشعور بأن البعض أقوم أخلاقاً من الآخرين. هناك ما هو أسوأ: هناك نقصٌ في الحنكة السياسية. لنفرض جدلاً أن جميع الأحزاب متساوية في عدائها للثورة، وهذا غير صحيح، فهل من مصلحتنا، من الناحية التكتيكية، أن نحاربهم جميعاً دفعة واحدة، أم نسعى الى تحييد بعضهم؟ لنضرب مثلاً. لنقل أننا جيشٌ يغزو بلداً آخر قدراته العسكرية متكافئة تقريباً مع قدراتنا. وأن في هذا البلد خمس مجموعات إثنية كبرى تشكّل مكوّناته الرئيسية، وهي ليست على وئام فيما بينها. هل نحارب الجميع دون تمييز، ونقول لهم: نحن قادمون لإلحاق الهزيمة بكم جميعاً، فنجبرهم على التكاتف، أم نسعى الى التخابر مع بعضهم من أجل استمالتهم وإخراجهم من المعركة؟
الإعتقاد بأن أطراف الطبقة الحاكمة متكاتفون في السرّاء والضرّاء، وبأن الخصومة والكراهية التي كانت بينهم قد انتفت، فيه الكثير من التبسيط. والحقيقة هي أن الأحزاب كانت لها وجهات نظر متباينة بشأن الثورة. بعض الأحزاب أخذت منذ البداية موقفاً مؤيداً للثورة، بل شاركت فيها بجدّية، لكن من دون ضجيج. وهذا أمرٌ يُسجّل لها. وبعضها التزمت حيالها موقفَ الحياد الإيجابي، مما شجع عدداً كبيراً من أعضائها ومناصريها على المشاركة. وبعضها بذل قصارى جهده للتنديد بالثورة وتشويه سمعتها، واعتدى عليها في الشارع. فهل يجوز أن نضعهم جميعاً في المنزلة نفسها، ونتعاطى معهم وكأنهم جميعاً علي نفس القدر من السوء؟
نعلم جيداً أن الأحزاب التي انحازت الى الثورة إنما فعلت ذلك بناءً على حسابات سياسية، وهذا أمر طبيعي، لأنها أدركت أن الثورة هي الشعور السائد لدى الناس، وأنه لا سبيل الى إيقافها، ولا بدّ من التأقلم معها. وهي في ذلك تتبع جمهورها الذي سبقها في هذا الإتجاه، وتتماشى مع أهواء غالبية اللبنانيين.
وهذا مكسبٌ للثورة. تنتصر الثورة عندما تحظى بتأييد أعدادٍ متزايدة من الناس. عندما لا تستبعدهم سلفاً، بل تستوعبهم، وتسمح لهم بالتحوّل الى أفكارها والى مشروعها.
Kamal.yazigi@icloud.com
بيروت – أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية