* بين المقالات الكثيرة المنشورة حول الإتفاق الصيني-الإيراني مقال حسن فحص، أعلاه، المنشور في « إندبندنت عربية »، مُمَيّز بدقة التحليل والنظرة العارفة بالمجتمع، والسلطة، في إيران. « فاقتضى التنويه »!
وهو ما يظهر جلياً من خلال المعركة التي تخوضها وسائل الإعلام الموالية ضد الجهات المنتقدة أو المعترضة على هذا الخيار، ومحاولة تسويغه لإقناع المجتمع الإيراني بصوابية ما ذهب إليه النظام، حتى إن كان ذلك يتعارض مع البنية الثقافية لهذا المجتمع بكل فئاته وتوجهاته الدينية وغير الدينية، الموالية وغير الموالية. ما يوحي بأن النظام على استعداد للذهاب إلى أي خيار في مواجهة المعترضين، خصوصاً أنه يعتبر هذه الخطوة مصيرية لضمان استمراريته وورقة لمواجهة الضغوط الأميركية والغربية التي تتعرّض لها مصالحه الداخلية والخارجية، من دون التوقف عند مقتضيات المصالح القومية والوطنية التي توجب عليه، كما على أي نظام، عدم الذهاب إلى تفاهمات أو اتفاقيات طويلة الأمد في وقت ما زال يرزح تحت العقوبات ويعاني من حصار سياسي واقتصادي دولي، يضيق أمامه خيار تنويع الاستثمارات والاختيار بين الشركاء الاقتصاديين.
من المعروف أن المجتمع الإيراني، وعلى الرغم من هويته الإسلامية التاريخية، التي أصبحت أكثر تأثيراً بعد إنشاء النظام الإسلامي عام 1979، هو من أكثر المجتمعات الإسلامية رفضاً لمسألة “تعدد الزوجات”، وهو رفض لا علاقة له بقوة الحركة النسوية وقدرتها، بل يعود إلى البنية الذاتية، ما جعل المشرع الإسلامي يذهب إلى وضع شروط في عقد الزواج، فرضت على الرجل الحصول على موافقة الزوجة إذا ما أراد أن يتزوج أخرى، وفي حال الزواج من أخرى من دون علم الزوجة الأولى، فللأولى حق طلب الطلاق والحصول على كامل مهرها.
ومن المعروف أيضاً أنه بعد عام 1980 وبعد قيام مجموعة طلابية من الموالين للزعيم المؤسس باحتلال السفارة الأميركية، تحوّلت الولايات المتحدة الأميركية إلى العدو رقم واحد للنظام والثورة وإلى حد كبير المجتمع الإيراني الموالي والمؤيد للثورة والنظام، وبات شعار “الموت لأميركا” ومحاربة كل ما هو أميركي، سياسة سعى النظام إلى تكريسها في المجتمع وتحويلها إلى ثقافة اجتماعية وسياسية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الثورة والنظام، وفي ظل وجود المؤسس في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لم يستطيعا أن يزعزعا النظرة الاجتماعية الإيجابية بين مختلف الشرائح الإيرانية الثورية والمتدينة والعلمانية وغيرها نحو النموذج الأميركي بكل مندرجاته ومستوياته الثقافية والسياسية والفكرية. لعل ما عبرت عنه عام 1984 إحدى العائلات الدينية في مدينة قم، مقر الحوزة الدينية والظهير العقائدي للنظام في حربه ضد “الاستكبار العالمي الأميركي” من إعجابها بما هو أميركي، سمح لها بأن تتخلى عن كل المحاذير وأساسيات ثقافية مترسخة ومستجدة، عندما سوّغت موافقتها عل أن تكون ابنتها، زوجة ثانية لرجل دين غير إيراني، وأن تقول بصوت واثق وحازم وصارخ “إنه أميركي ويحمل الجنسية الأميركية”، وهو مثال ينسحب على غالبية أو عموم المجتمع الإيراني بكل تلاوينه الثورية وغير الثورية، الرسمية وغير الرسمية، الدينية وغير الدينية، الذي بقي يتعامل مع السلعة الأميركية والأوروبية بشيء من القدسية، بما يكشف عن فشل المؤسسة الرسمية في إرساء ثقافة “المقاطعة” أو تسويقها كخيار سياسي مرحلي في معركته مع الدولة الأميركية، أو في مواجهة مسار العقوبات التي فُرضت على إيران ما بعد مغامرة السفارة الأميركية واحتجاز الرهائن، وصولاً إلى الحصار المحكم الذي فرضه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
اليسار الإيراني، بكل تنوعاته بما فيها الحزب الشيوعي “حزب توده”، وعلى الرغم مما تبقى من الأيديولوجيا الشمولية، لم يستطِع تحقيق أي خرق في النظرة الاجتماعية الإيرانية في التعامل مع المثال الغربي، حتى في المرحلة التي حقق فيها هذا التيار نوعاً من المشاركة السياسية إلى جانب رئيس الوزراء محمد مصدق عام 1952 الذي قاد عملية تأميم النفط، ما دفع حينها تحالف القوى الدينية والمدنية العلماني أو المتغرب، إلى قيادة وتصدر الثورة الاجتماعية المضادة ضد مصدق من بوابة الوقوف بوجه سياسة تغليب الخيار الشرقي أو على الأقل خيار العداء مع الغرب الاستعماري، الذي حاول اليساريون خطف حركة مصدق من خلاله، في وقت أن خيارات مصدق كانت ذات منطلقات قومية ووطنية وإيرانية من دون عدائية مع القوى العظمى. وهم الآن وفي الوقت الذي يدافعون عن خيار النظام بالتوجه نحو الشرق، يتخوفون من قوة وقدرة القوى المرجحة لخيار الغرب في النظام وخارجه داخل حرس الثورة من المحافظين والإصلاحيين، على تعطيل هذا المسار.
بكين تبحث عن ضمانات إيرانية تحافظ على الخطوات العملية لترجمة هذا التفاهم في المستقبل
ولا يتردد مسيح مهاجر، رئيس تحرير صحيفة “جمهوري إسلامي” المحافظة والممولة من النظام (الناطقة باسم الحزب الجمهوري الذي تولّى المرشد الأعلى منصب أمينه العام) بالتحذير من الآثار التي قد تنتج من المضي في ترجمة التفاهم الموقع مع الصين إلى اتفاقيات ومعاهدات ملزمة التنفيذ، معتبراً أن الخوف من الأفعى، أي أميركا، لا يسوّغ للنظام أو أي جهة برمي إيران ومستقبلها في حضن التنين الأصفر. وهو تحذير ينسجم مع قراءة واقعية تعترف بحاجة إيران إلى الاستثمارات الخارجية للخروج من الأزمات الاقتصادية المتراكمة، شرط أن لا يكون العلاج لهذه الأزمات بأساليب غير واقعية، تفرض على إيران والإيرانيين نتائج السياسات الفاشلة، وأن الانتقال إلى المرحلة التنفيذية لهذا التفاهم ربما تكبّل الأجيال المقبلة بمعاهدات لمدة 25 سنة، وتعيق وتعرقل أي إمكانية لنمو وتطوير حقيقي وعلاقات صحية مع العالم، كما حصل في تجارب مماثلة مع دول وشعوب عقدت مثل هذه الاتفاقيات مع الصين.
وإذا ما كانت بكين تبحث عن ضمانات إيرانية تحافظ على الخطوات العملية لترجمة هذا التفاهم في المستقبل، نتيجة قناعة صينية بإمكانية تخلي الجانب الإيراني عن الاتفاق في حال تم التوصل إلى حلول لأزمة العقوبات مع الدول الغربية وواشنطن، وهي قناعة تولدت لدى القيادة الصينية بناء على قراءة واقعية لبنية المجتمع الإيراني الفكرية والثقافية، خصوصاً أن بعض القوى الإيرانية المؤيدة لرؤية التوجه نحو الشرق تتهم الحكومة والقوى الإصلاحية وبعض المحافظين بالميول الغربية والعمل على عرقلة أي جهود لعقد تحالفات مع الصين أو روسيا، بانتظار العودة إلى الحضن الغربي.
في المقابل، ظهرت أصوات إيرانية معترضة على هذا التفاهم، ترى أن الجانب الإيراني هو الأكثر حاجة لمثل هذه الضمانات، لأن تجارب التعاون مع الصين لم تكن مشجعة في السنوات الأخيرة، وأن انسحاب الشركات الصينية من مشروع تطوير حقل “بارس جنوب” مع شركة “توتال” الفرنسية عام 2018 بعد العقوبات التي فرضتها واشنطن، لا يشكّل حافزاً لعدم رضوخ بكين للضغوط الأميركية مستقبلاً، وأن يتحول التعاون مع إيران إلى ورقة مساومة بين بكين وواشنطن في معركة الدفاع عن مصالحها الاقتصادية الأكبر على المستوى العالمي.