يتمتع القرن الأفريقي بموقع جغرافي مميز غرب البحر الأحمر وخليج عدن على شكل قرن، وهو بهذا المفهوم يشمل أربع دول هي إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، بينما من ناحيتي البعدين السياسي والاقتصادي تتسع المنطقة أكثر لتشمل السودان وجنوب السودان وكينيا وأوغندا. ووفقا لهذه النظرة نجد أن هذه المنطقة من شرق أفريقيا تتحكم بمنابع النيل وتسيطر على مداخل البحر الأحمر وخليج عدن. وهذا الامتداد الحيوي للقرن الأفريقي يعلي من شأنه الإستراتيجي في عيون القوى الدولية بسبب إطلاله على طرق التجارة الدولية البرية والبحرية، وهكذا أصبحت المنطقة مثار تصارع أطراف دولية وإقليمية على مواطن الثروة والنفوذ والحضور فيها، خاصة أنها منطقة اتصال مع شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، فالموانئ وحاملات النفط والغاز والاتجار بالبضائع والأسلحة وعبور الأشخاص ومخاطر القرصنة عوامل جعلت منها نقطة جذب دولية.
ومما لا شك فيه أن أهميتها ازدادت منذ حرب تحرير الكويت والتدخل الخارجي في الصومال، وأخيرا بسبب حرب اليمن والتنافس الدولي – الإقليمي على التمركز في الموانئ وإقامة القواعد حيث التزاحم الدولي الصيني – الغربي في جيبوتي والاختراق التركي في الصومال والوجود السعودي والإماراتي البارز على البحر الأحمر من ميناء عصب في إريتريا إلى الجزر والداخل الصومالي.
تتناقض هذه المكانة الإستراتيجية فائقة الأهمية بشكل صارخ مع وضع اقتصادي غالبا ما كان مأساويا، إذ شهدت منطقة القرن الأفريقي خلال العقدين الماضيين مجاعات وحروبا بسبب الصراعات السياسية والجفاف وانعدام الأمن الغذائي، وهو ما دفع السكان ثمنه قتلا وتشريدا. ومن لا يتذكر مجاعات إثيوبيا والصومال وإريتريا واعتماد هذه الدول طويلا على العون الخارجي، ويجدر التذكير أن حرب 1998 بين الأخوة الأعداء في أديس أبابا وأسمرة أوقعت حوالي مئة ألف قتيل، ومن حينها توقفت حتى الاتصالات الهاتفية المباشرة بين العاصمتين.
بالرغم من خروج إثيوبيا من عنق الزجاجة الاقتصادي وارتفاع معدل نموها في السنوات الأخيرة، إلا أن أجواء التوتر الإقليمي إن مع إريتريا أو مع مصر بسبب سد النهضة كانت سائدة حتى بدايات العام 2018، ويمكن القول الآن إن تحاشي استمرار التصدعات في القرن الأفريقي والابتعاد عن القطيعة في داخله وفِي جواره تحقق بفضل ما حدث في إثيوبيا في الربيع الماضي مع صعود قيادة جديدة شابة وواقعية وحكيمة ممثلة بشخص أبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، وهو أول رئيس وزراء مسلم في بلد أكثريته مسيحية، والذي ينحدر من عرقية أورومو، أكبر مجموعة عرقية في البلاد والتي كانت تقود الاحتجاجات المناهضة للحكومة السابقة على مدار ثلاث سنوات.
على خلاف ما توقع مراقبون دخلت إثيوبيا في عهد جديد منذ أبي أحمد، فالدولة العميقة التي أنشأها ميليس زيناوي بدت وكأنها أضعف مما نتصور أو استوعبت الصدمة بعد موجة كبيرة من الإقالات لكبار قيادات المؤسسات العسكرية والأمنية من المحسوبين على النظام السابق دون أي اعتراض أو تحركات عسكرية مضادة. لكن محاولة الاغتيال التي تعرض لها أحمد في يونيو الماضي وأجواء الاحتقان عند إثنية التجراي، قد تدفعهم للبحث عن تحالف للإطاحة بأبي أحمد وإلى فتح حوار مع بقية الأقليات الإثيوبية الخائفة من استئثار الأورومو بالسيطرة، مثل الأمهرا والأوغادين وبني شنقول وشعوب الجنوب.
وهذا الوضع الحذر داخل إثيوبيا دفع بأبي أحمد لأخذ قرار الانفتاح الخارجي لتحصين وضعه الداخلي من الاهتزازات المُحتملة. وفِي هذا الإطار لعبت دولة الإمارات العربية المتحدة دورا ملموساً في التوصل إلى إبرام اتفاق السلام التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا. وترافق ذلك مع انفراجة في العلاقات الإثيوبية المصرية وإعادة الحوار الثلاثي مع السودان بخصوص تقاسم مياه النيل.
ويبدو أن هذه المصالحات وهذه التوافقات الإقليمية تتم برضا ومتابعة الولايات المتحدة الأميركية في هذه اللحظة الإستراتيجية الاستثنائية، والأرجح أن يندرج ذلك في سياق تركيب منظومة أمنية شاملة من بحر العرب إلى قناة السويس. مع العلم أن إثيوبيا وإريتريا كان لهما أدوار في اليمن وأن تنسيقهما اليوم مع التحالف العربي سيكون له أثره على مصير حرب اليمن. ومن التداعيات الأخرى تحرر إثيوبيا من تبعيتها لميناء جيبوتي مع وجود البديل في ميناءي عصب ومصوع الإريتريين، ويمكن في فترة لاحقة أن يتأثر الصومال إيجابا بهذا المناخ السلمي وإنهاء مرحلة الفوضى التدميرية.
في الإطار الإقليمي الأوسع أمنياً واقتصادياً وسياسياً، سنكون في سباق ما بين وعد التنمية والانفتاح في البحر الأحمر مع مشروع “نيوم” في سياق “رؤية – 2030″ للأمير محمد بن سلمان ولي العهد في المملكة العربية السعودية، وما بين قرع طبول الحرب مع إعلان الجنرال قاسم سليماني أن البحر الأحمر لم يعد آمناً بسبب وجود القوات الأميركية في المنطقة، وبعد قرار المملكة العربية السعودية الوقف المؤقت لشحن النفط عبر باب المندب مع كل ما يعنيه من إشارات مقلقة.