“لا تفسد قصة جميلة بقول الحقيقة”
“Never Let the Truth Get in the Way of a Good Story”
(مارك توين)
أحب مشاهدة الأفلام الأمريكية الكلاسيكية القديمة على الأقل مرتين في الأسبوع، لأنها تذكرني كثيرا بطفولتي عندما كنت أذهب وأنا صبي صغير إلى سينما إيزيس بحي السيدة زينب بالقاهرة لمشاهدة ثلاثة أفلام أمريكية في بروجرام واحد! وكنت أجلس مذهولا وغائبا عن العالم الواقعي لمدة أربع أو خمس ساعات متواصلة. وعندما كنت أعود للبيت ويسألني والدي (الشيخ البحيري) عن سبب تأخري أجيبه: “كنت في السينما في السيدة زينب”، فيقول لي: “يا إبني، السينما دي مفسدة”، فأجيبه: “كنت أشاهد فيلم ظهور الإسلام”، وكان يهز رأسه موافقا!
ومنذ أسبوعين شاهدت فيلم “سليمان وسبأ” (عام 1959) بطولة يول براينر والممثلة الإيطالية الجميلة جينا لولو بريجيدا، وهو يحكي عن قصة الملك سليمان وملكة سبأ. والفيلم كله لا علاقة له بما تعلمناه من الكتب المقدسة وهو المصدر الوحيد لدينا عن ملكة سبأ والملك سليمان صاحب القصة الشهيرة (الموجودة في العهد القديم) عندما جاءته امرأتان تدعي كل منهما أنها أم الطفل الذي تحمله المرأة التي سرقت الطفل من امه الحقيقية, ولما لم يعرف الملك سليمان الأم الحقيقية من الأم السارقة توصل إلى خدعة ذكية: فأمر حارسه بأن يقسم الطفل إلى نصفين ويعطي لكل أمرأه نصف طفل، فما كانت من الأم الحقيقية أن صرخت وقالت: “لا تفعل سيدي ظغنه طفلها”! فعرف الملك سليمان أنها هي الأم الحقيقية، وأخذ الطفل من الأم المزيّفة وأعطاه للأم الحقيقية، وأمر بحبس الأم السارقة للطفل. ولذلك عرف بـ”سليمان الحكيم”.
وفي القرآن وفي العهد القديم الكثير عن حياة سليمان ابن داوود وعن ملكة سبأ، ومكان سليمان حسب الكتب المقدسة هو مدينة أورشليم (القدس)، أما مكان مملكة سبأ فهو غير محدد فمعظم العرب يؤمنون بأن مملكة سبأ وملكة سبأ (بلقيس) كانت في اليمن بينما الإثيوبيون يعتبرون بأن ملكة سبأ هي والدة الشعب الأثيوبي ويطلقون عليها أسم (مكيدا) أما بعض المصادر المسيحية فتطلق عليها أسم (نيكولا).
أما فيلم (سليمان وسبأ) فهو من تأليف شركة إنتاج الفيلم تماما ولا علاقة له بقصص الكتب المقدسة. والفيلم يقول بأن ملكة سبأ جاءت إلى سليمان للتجسس عليه لحساب فرعون مصر يعني ملكة سبأ كانت تعمل في المخابرات المركزية الفرعونية!! بينما بعض الكتب المقدسة تقول أن الملك سليمان كان متزوجاً من ابنة فرعون مصر!
والحقيقة أن التاريخ عبارة عن مجموعة من الروايات، لأن الإنسان بطبعه يحب الروايات ويحب النميمة جدا! ومعظم الحكايات والروايات هي مجرد نميمة عن أناس آخرين خياليين في معظم الأحيان، وأحيانا خليط بين الخيال والواقع. حتى التاريخ الحديث، وحتى اليوم، رغم وجود عشرات الوسائل من تسجيل وتوثيق للحقيقة إلا أننا نفضل الرواية! فعلى سبيل المثال في أمريكا اليوم نصف الشعب الأمريكي يعتبر أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هو أعظم رئيس في تاريخ أمريكا ويعتبرها حقيقة لا تقبل الجدال! والنصف الآخر يعتبره أسوأ رئيس في تاريخ أمريكا, وكلا الطرفين يعطيك من الروايات أو أنصاف الحقائق (وليست كل الحقائق) لإثبات وجهة نظره.
وبعض علماء التاريخ الإنساني يؤمنون بأن الكثير من الشخصيات التاريخية الهامة هي شخصيات خيالية من تأليف الرواة! وبعضها مزيج من عدة شخصيات تم مزجها بحرفة روائي على مر عصور ما قبل التدوين لتصبح شخصية واحدة عظيمة وأحيانا شخصية مقدسة لا تقبل المسّ.
ومعظم المعجزات التي قرأنا عنها وسمعنا بها كلها حدثت في عصر ما قبل التدوين، تلك المعجزات التي تخالف قوانين الفيزياء والكيمياء والجاذبية والرياضيات. ولم نعد نسمع عن أي معجزات في العصر الحديث، المعجزة الوحيدة الآن هي العلم ومنتجاته.
وإحدى الوسائل الذكية والمنتشرة منذ وجود الإنسان على وجه الأرض وحتى اليوم لإعطاء الرواية المصداقية هو أنها في معظم الأحيان تكون خليطا بين الحقيقة والخيال.
وفي القرن الواحد والعشرين، في عالم وسائل التواصل الاجتماعي تحول كثير من الناس إلى روائيين يكتبون ويؤلفون الأخبار والشخصيات على “النت”. وكلما كان الخبر غريبا ويصعب تصديقه كلما كان انتشاره أسرع وقد يكسب صاحبه الشهرة وأحيانا المال. وهم بهذا يستغلون بأن معظم الناس لا يستخدمون “فلتر” العقل.
وأنا مثل معظم الناس أستمتع بالروايات والحكايات، ولكن المشكلة عندي عندما تتحول الرواية إلى تاريخ وحقيقة. وقديما قالوا بأن “التاريخ يكتبه المنتصر دائما”، بمعني أن المنتصر يؤلف التاريخ على مزاجه ويحوله إلى روايات. وأحيانا تتحول تلك الروايات إلى حقائق مقدسة لا تقبل الشك، بل وفي كثير من الأحيان يعاقب من يطالب بمراجعة بعض الحقائق المقدسة والتحقق منها لكي نتأكد أنها حقيقة وليست مجرد رواية، وللأسف التاريخ الإنساني مليء بالضحايا الذين شككوا في صحة بعض الروايات وأرادوا تمريرها على “فلتر” العقل.
وكثيرا ما أحلم بأن يكون لدي آلة الزمن وتليفون موبايل به كاميرا فيديو ممتازة، وأعود إلى الوراء آلاف السنين لأعيد كتابة التاريخ الإنساني!!