ما إن دلفنا إلى قاعة الطعام، حتى وجدناها مكتظة بالزائرين الملتفين حول المناضد الدائرية الصغيرة، وكانوا يقضمون شرائح البيتزا، وشطائر الجبن واللحم المقدد، ويجرعون زجاجات البيرة المثلجة، والمياه الغازية. تصاعدت ضوضاء محبّبة، بعد السكون المطبق الذي كان قد لفّ قاعات المتحف الأولى التي مررنا بها. بل إنّ السكينة قد سادت داخل الـ “سيستين تشابل” نفسها، وكانت مكتظة بالزوار. كأننا حلَّقنا في الفضاء الخارجي، فوق مستوى جلبة القشرة الأرضية المعتادة، فقد عمّ هدوءٌ متأملٌ، رغم امتلاء الكنيسة عن آخرها. تقدمنا زياد باحثًا عن مكان شاغر لنجلس إليه، أو عن كانديد، فربما كان قد سبقنا، فحجز لنا مائدة نشاركه إياها. وبالطبع طافت عيوننا ـ أمير وأنا ـ تمسح المطعم، بحثًا عنه بالمِثل.
لم تطل وقفتنا في انتظار زياد، بل فوجئنا خلال لحظات بجماعة من رجال الكهنوت الكاثوليكي، يهرعون نحونا مسرعين، بأثوابهم السوداء، وأحزمتها العريضة، المطرزة بمختلف الألوان الزاهية، وصلبانهم الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة تتدلى فوق صدورهم. حينما اقتربوا منا أكثر، خيّل إليَّ أنّ بينهم الأب “جان لوي فرانسوا”، ذلك الأب الكاهن الذي كنا قد قابلناه في كاتدرائية الـ”ساكريكير” بباريس قبل بضعة أيام. وبالفعل تأكد لي ذلك حين وصلوا إلى حيث كنا نقف، فتقدمهم بخطوة الأب جان لوي فرانسوا، ومد يده ليصافح أمير، ثم جذبه إلى صدره يحتضنه بحرارة، وكأنهما صديقان، بل نديمان متآخيان منذ الصبا. اندهش أمير، بالطبع، لكن مباغتة الكاهن له لم تدع أمامه من سبيل إلا أن يستسلم له. ثم انتزعه الأب فرانسوا من حضنه برفق، وكأنه يخشى أن يتفتت بين ذراعيه، ثم تقهقر قليلا، ونظر إلى يمينه، وهو ينحني ليقدم الكاهن المسن الواقف بجواره، قائلًا:
“المطران ’فالليني‘ رئيس كهنة روما.” ثم إلى يساره:
“الأسقف (فلان)!”.
وقد كانا يرتديان ثوبين أسودين، وكانا متمنطقين حول خصريهما بلفافتين كالحزام، إحداهما قرمزية، والأخرى بنفسجية، وكانتا متطابقتين مع لوني طاقيتين فوق رأسيهما. ثم قدّم الأبوين (فلان، وفلان) وكانا يرتديان ـ مثل الأب فرانسوا ـ أثوابا بيضاء ناصعة. قال أسماءهم جميعا، ولكنني بالطبع لم أدرك كل تلك الأسماء، ولم أجرؤ أن أطلب منه إعادتها. سلمنا عليهم بانحناءات وقبّلَت سيسي الصليب القابضة عليه يد المطران، ولست أدري كيف ميزته وسط بقية الإكليروس. حدث كل هذا في غضون بضع ثوان، ولكنها كانت كافية لتلتوي أعناق رواد المطعم، متسائلين عمن يكون أصحاب ذلك المقام الرفيع، الذين دفعوا بتلك القامات العالية إلى المجيء خصيصا لأجل استقبالهم، في مطعم متحف الفاتيكان.
وفي الوقت ذاته ، تعالى صوت زياد من الناحية المقابلة للمطعم، يشير إلى أمير بأنه عثر على طاولة شاغرة. نظر أمير نحو الأب فرانسوا والآباء الإكليروس، متسائلا عما يتحتم علينا أن نفعله. نظر الأب فرانسوا إلى ساعة يده، وأعلن وهو ينظر نحو المطران متسائلًا:
“أعتقد أن لدينا بضع دقائق قلائل، يمكننا أن نتبادل خلالها بعض الكلمات، قبل بدء صلاة البركة؟”
أومأ المطران موافقا، وسرعان ما تقدمَنا بنشاط ـ رغم تقدم سنه ـ بزيه اللامع المبهر، وبخاتم مرصع في يمناه، وهو يحيّي الحاضرين بانحناءة خفيفة بالرأس، بينما يرفل ما بين الموائد، التي كان يهبّ كل شاغليها واقفين، بمجرد أن يقترب منهم الركب، احتراما وتبجيلا، حتى يمر فيعاودون الجلوس. توجهنا إلى حيث كان يقف زياد مذهولا، وهو يراقب الموكب المهيب المتداني نحوه. أما أنا وسيسي، فتذيلنا الجميع، وأنا أقودها برفق بين الطاولات وشاغليها الذين بلغت بهم النشوة إلى حد أن راحوا يصفقون أخيرا.
تسابق العمال والندل إلى إحضار مقاعد إضافية حول مائدتنا. وما إن جلسنا، حتى بدأ الأب فرانسوا في الكلام، وكأنه يلقي خطابا كان قد أعده مسبقا بعناية فائقة:
“أخي الحبيب أمير، وأخوتي الأعزاء، أنا سعيد حقا بلقياكم هنا في حضن الفاتيكان، وعلى مقربة بضع خطوات من كرسي المعظم، البابا فرانسيس الذي سوف نتمتع بمباركته لنا بعد بضع دقائق. لكن دعوني أشرح لكم كل ما كان حتى لحظتنا الآنية، لعلكم تدركون عمل الله في حياتنا. تذكرون بالطبع يا أحبائي يوم التقينا في باريس في قلب كاتدرائية الـ”ساكريكير”، وقد انبهرت ببعثتكم المقدسة، باحثين عن كانديد لتخلّصوا العالم من شره المستفحل. في الحقيقة، لا أخفي عليكم ندمي الشديد، بمجرد أن تركتموني وراءكم، وانطلقتم تواصلون مهمتكم السامية. رحلتم، بينما بقيت أنا هناك، بيد أني أنا الذي وهبت حياتي قبل سنوات، ليتسنى لي أن أفعل بها ما أقدمتم أنتم على فعله، بكل إخلاص وتفان، وبدون معاونة أو تحضيض. الحق، أعترف لكم، أني لم أنم ليلتها. شعرت بأنّ صوتا سماويا كان يحثني أن أشارككم رحلتكم الإنسانية المقدسة، بنفسي، وليس عبر حفنة من الأموال أهبكم إياها، قد تساعدكم على إنجاز مهمتكم. لكني مع كل أسف، لم أعرف لكم رقم هاتف، أو اسم فندق، أو أيٍّ ما يدلني إليكم. ثم تذكرت أني حدّثت أمير ـ أرجو أن تسمح لي أن أدعوك أمير هكذا بدون ألقاب ـ عن كلامي مع كانديد بخصوص دير الراهبات الكائن بـ’شارع دو باك‘. وبالفعل، عقدت العزم في اليوم التالي، على زيارة الدير، بعد الخدمة الثالثة للقداس التي اضطلعت بها. وهناك أرشدني الرب إلى لقاء الراهبة التي تحدثتم إليها، والتي حادثت كانديد من قبلكم عن المجيء إلى الفاتيكان، من أجل البحث عن ’المؤمنين الحقيقيين‘ وحسنًا فعلت…”
انقطع الأب فرانسوا عن الكلام موجها نظره نحو المطران والأسقف، ثم أحنى رأسه قليلا، وهو يرفع كوب الماء الذي وضعه النادل أمامه قبل لحظات، وكذلك فعل أمام كلّ واحد منا. رشف من الكوب، وأكمل قائلا:
“لقد جاسرت وتحدثت مع قداسة الأب ’أندريه الثالث والعشرين‘؛ مطران باريس بشأنكم، وبخصوص مهمتكم المباركة. وحين اعترفت برغبتي في اللحاق بكم، تحمس قداسته، وتفضل بالتحدث إلى قداسة المطران ’فالليني‘ الذي رحب بدوره بأمر مجيئي إلى روما، واستضافتي بالفاتيكان. وبالفعل سافرت مساء أمس إلى هنا، واليوم طلبت من نيافة الأسقف زيارة الـ ’كابيللا سيستينا‘ ـ كما يدعونها بالإيطالية ـ قبل موعد صلاة البركة التي سوف يقدمها البابا المعظم في الساعة الثانية عشرة، هنا أمام ساحة القديس بطرس، فوافق متكرمًا. وبينما أنا أجول بداخل الكنيسة منبهرًا، إذا بي وجهًا لوجه مع ’كانديد‘… نعم وجدتني مقابلُه شخصيّا!”
سكتَ مجددًا، وهو يتفحص وقع كلماته على كل منا. ثم رشف مجددا من الماء، وأكمل:
“لا تتصوروا مدى سعادتي بلقائه، إذ شعرت بأنّ يد الله كانت تحركني وتدفعني دفعًا، فاستشعرت أني على الطريق الصحيح، وأحسست ببركة سماوية تكتنفني. تعرّف هو عليَّ على الفور، وارتسمت فوق وجهه أمارات السعادة بلقائي. حين خرجنا من الكنيسة، تعرفت على زوجته ’ليدي كوناجوند‘، وصاحبه ’كاكامبو‘، وصديقهم الشيخ ’بروفيسور بانجلوس‘ الذي باح لي فور لقائنا، بأن ليس بالإمكان أفضل مما كان في هذا العالم. أخبرني كانديد بأمر تلك الرسالة التي كان قد تركها وراءه، ودعوته إياكم إلى لقائه هنا. لكنه أعرب عن أسفه من عدم إمكانه انتظاركم بصحن الكنيسة كما اعتقَد، وعن يأسه من أن تقدروا على اللحاق به بعد اليوم، إذا ما فشل في مقابلتكم. لكني سعيت إلى طمأنته، ونحن نسير نحو مقر قداسة البابا فرانسيس، الذي أصر كانديد على لقائه شخصيًا، ليسأله عن ’المؤمنين الحقيقيين‘. استطعت بالفعل أن أدبّر له مقابلة مع قداسة البابا، بمساعدة نيافة المطران ’فالليني‘، ثم وعدته أن أعود وأبحث عنكم حتى ألقاكم. وبالفعل حضرت إلى هنا عدة مرات، وفي المرة الأخيرة طلب منّي نيافة الآباء اصطحابي، فسررت، وأنا متأكد تمامًا من نجاحي في العثور عليكم، في هذه المرة بالذات، لأن يد الله التي كانت معي، هي التي سمحت بصحبة نيافة المطران والأسقف والآباء، لنكون جميعًا هنا، في استقبالكم، وليتمجد اسم الله القدوس!”
سأله أمير، فور أن انتهى:
“وهل اصطحب كانديد عائلته معه، للقاء البابا؟”
“بالطبع!”
وهنا تنحنح المطران، وأومأ إلى الأب فرانسوا، برأسه الممتلئ، معلنًا أنه سيبدأ الحديث. وبالفعل، بدأ الشيخ يتحدث إلينا، بصوت محشرج، ولكن باللغة الإيطالية، وشرع الأب فرانسوا يترجم لنا إلى الفرنسية، ثم يفسر لنا أمير ما قاله، باللغة الإنجليزية، فقال:
“أوّلا، أرحب بكم في الفاتيكان، موضع شهادة القديس بطرس، صخرة الكنيسة، كما دعاه السيد المسيح.”
“ثانيا، أحب أن أعبِّر لكم عن امتناننا لهذا الجهد العظيم، وللرسالة السامية التي من أجلها تركتم دياركم، ورحلتم إلى شتى البلدان، من أجل هدف سام، وهو خلاص البشر، والانتصار للحق والخير والسلام.”
“ثالثا، أعترف بأنّ عملكم هذا لا يخضع للأمور الدنيوية، المنطقية، العادية، التي تمر بحياتنا كل يوم. ولكن، مع ذلك فمساحة الرؤيا بكنيستنا تتسع لأمور كثيرة غير منظورة، وتشمل أشياء عديدة نقبلها بالإيمان، رغم أنها لا تنصاع في العادة للقوانين الأرضية الاعتيادية.”
“رابعًا، أستميحكم عذرًا في سرعة تناول وجبة خفيفة هنا، حتى يتسنى لكم الانتهاء منها خلال فترة وجيزة، لكي تشاركونا في تلقي البركة الأسبوعية، التي يقدمها للشعب قداسة البابا فرانسيس ظهر كل أحد تقريبًا، إذ لم يتبق ـ في الواقع ـ سوى بضع دقائق عليها. ونحن بدورنا سوف نتيح لكل منكم تذكرة للدخول، وهي مجانية على أيّ حال، ولكن كان ينبغي حجزها مقدما. لذا، فسوف نسبقكم إلى ساحة القديس بطرس، وهي على بعد خطوات من هنا، وسوف نترك الأب فرانسوا معكم، ليرشدكم إلى الطريق، بعد أن تفرغوا من طعامكم.”
ثم قاموا على الفور، وهم ينصرفون مودّعيننا، بابتسامات وقورة مرحبة.
وعلى الفور تلقى النادل طلباتنا، وسحبت أنا كرّاسي الأزرق من حقيبتي، ومكثت أدوّن كل تفاصيل ما حدث هنا، حتى جاءت الشطائر والمرطبات.
بعدها كان المشهد مهيبًا؛ امتلأت ساحة القديس بطرس بالمؤمنين. وبعد الظهر بدقائق معدودات، خرج قداسة البابا إلى شرفة من البيت الفخم ـ أو قل القصر الفاخر ـ الذي يقيم به بابا الفاتيكان. ولدهشتنا أبصرنا، إلى جانب المطران “فالليني”، شابًا واقفًا ذا شعر أشقر مجعدة أطرافه الطويلة التي كادت أن تصل إلى أكتافه، وهو يرتدي قميصًا أبيض ذا أكمام منفوشة، وسروالا غامق اللون، واسعًا جدا، وقد بات ينظر نحو الجمع ذاهلًا. وقفَت إلى جواره امرأة تلبس رداءً ورديًّا، ذا ياقة حمراء تحيط بعنقها، وقد عقدت شعرها الطويل في شكل كعكة عالية جدًا فوق رأسها. كانا يبدوان وكأنهما ممثلان من فرقة مسرحية جاءت لتؤدي فقرة تاريخية. لكن علا صوت أمير فجأة، وهو يشير نحوهما:
“كانديد، وليدي كوناجوند، بمحاذاته!”
أتم قداسة البابا صلاة البركة باللغة اللاتينية، فلم أفهم أيّا مما قال، ثم نظرتُ باتجاه سيسي، لأتأمل وقع الصلاة عليها، فخلتها تتأمل ما يجري من وراء نظارتها السوداء. شعرت بي، فقبضت فوق يدي برفق، لتبلغني بأنّ كل شيء على ما يرام. لكنني ـ بعد ذلك ـ شعرت بخشوع يغشاني، فأحنيت رأسي، وجلت في رحاب صلاة عميقة.
أفقت على يد الأب فرانسوا تربت بترفق فوق كتفي. وسرعان ما استحوذ على انتباه أربعتنا، حين قال بالفرنسية، وتكفّل زياد بالترجمة لي ولسيسي:
“قداسة البابا يبتغي لقاءكم!”
انطلقنا عبر سد من البشر المحتشد، إلى أن وصلنا إلى باب خشبي موصد، طرقه الأب فرانسوا، وانتظر. بعد برهة انفتح الباب الخشبي وأطلت رأس رجل في زيّ كاهن أو راهب، فهمس له الأب بكلمة، ثم أشار إلينا أن نتبعه. دلفنا إلى باحة واسعة، خافتة الضوء، مبلطة برخام قديم، أبيض وأخضر، يشبه رقعة شطرنج ممتدة، تحفها حوائط مغطاة بألواح خشبية محفورة أطرافها بعناقيد عنب، وصلبان متجانسة بعضها مع بعض تجانسًا بديعا. توسط الحائطَ الخشبي المقابل، تمثالٌ رخامي رائع للسيدة العذراء، حاملةً الطفل يسوع. توجهنا نحو الجهة المقابلة للجانب الآخر من التمثال. رنَّت أحذيتنا، ونقرات عصا سيسي فوق الرخام، فملأت القاعة الصامتة جلبة. انتهينا إلى حيث ارتقينا سلما خشبيا مؤديا إلى الطابق الأعلى. رانت رائحة زهور وردية عبق بها المكان، ومع ذلك لم أبصر أثرا لورود.
صعدنا إلى الطابق الثاني، فاستقبلنا المطران “فالليني” عند أعلى الدرج. تهلل وجهه الأبيض السمين المتغضن بفعل الزمن، فاهتز اللحم أسفل ذقنه، وهو يعلن متأثرا:
“قداسة البابا بانتظاركم!”
مشينا وراء المطران في ممر طويل، مفروشة أرضيته بالسجاد، ومزدانة جدرانه بلوحات للباباوات القدامى. سيسي كانت تسير بمحاذاتي، متأبطة ذراعي، بينما تقدمنا بنحو خطوة أمير وزياد اللذان سارا خلف الكهنة مباشرة. أعلمنا نيافة المطران ـ وترجم الأب فرانسوا ـ بأنّ قداسة البابا لا يستقبل في تلك الحجرة إلا كبار الشخصيات من أصحاب المقام الرفيع. وصل ركبنا إلى آخر الممشى، فتوقفنا أمام باب خشبي، طرقه المطران، ثم فتحه على مصراعيه، فولجنا إلى الغرفة.
لم تكن غرفة بالمعنى السائد، بل ساحة عريضة أرضيتها من الرخام المزخرف في أشكال هندسية، تغطيه مجموعة من السجادات العجمية التي لم أر لجمالها مثيلا. إلى جانبي الشرفة قامت خزانتان خشبيتان مكتظتان بالكتب. وتدلت من السقف نجفة بلورية أنيقة.
توسط مقعد البابا الباحة العريضة، أمام الشرفة التي وقف بها قبل دقائق ليمنح البركة للشعب. جلس قداسة البابا وملأت ابتسامة رقيقة صفحة وجهه الطيب، وهو ينظر نحونا بعينين آسرتين، تشداننا إليه شدًّا.
انحنى المطران أمام البابا، ثم تبعه الأسقف، فالأب فرانسوا، ثم تقدم الأبوان الآخران اللذان لم أتذكر اسميهما، وقبَّلوا جميعًا الخاتم بيده. ثم انحنى أمير وحاكاه زياد، ثم سيسي، وأخيرا أنا. سَرت في جسمي قشعريرةٌ وأنا أمسك بيدي يد البابا فرانسوا الناعمة الطرية، بينما أقبّل الخاتم فوق بنصره الأيمن. لحظتها كنت أحلّق فوق سماوات عالية.
جلسنا بعدها إلى مقاعد وثيرة من حول كرسيه، ثم أومأ البابا فجاء راهب شاب بصينية مذهّبة تحمل كؤوسًا من الكريستال، وتحوي سائلًا أصفر لذيذ الطعم، عرفت في ما بعد أنه عصير اللوز المُحَلَّى. عبرت بعينيّ أتفحص الغرفة الواسعة، باحثًا عن كانديد وليدي كوناجوند اللذين رأيناهما بصحبة قداسة البابا حينما كان واقفًا بالشرفة من قبل. لكنني لم أجد أيا منهما. لمحت أمير وزياد وهما يبحثان أيضا، ولكن بلا طائل.
لاحظ قداسة البابا حركتنا، فصدرت عنه ضحكة مكتومة، ثم قال مداعبًا بلغة إنجليزية ركيكة:
“لماذا تبحثون عن الحيّ بين الأموات؟”
لكن سرعان ما أجابه أمير:
“هل تقصد يا قداسة البابا، أنّ كانديد كان ميّتًا، ثم قام من بين الأموات؟”
“أيها الإخوة الأعزاء وأيتها الأخت الغالية، إنّ هذه الكلمات تمكث في قلوب المؤمنين منذ صباح الفصح قبل قرنين من الزمان، إذ كتب لنا القديس لوقا في الإصحاح الرابع والعشرين من الإنجيل؛ عندما ذهبت النساء إلى قبر يسوع لتكفينه، لقيهنّ الملاكان، وقالا لهن: ’لِماذا تَبحَثنَ عن الحَيِّ بَينَ الأَموات؟‘. فهذه الكلمات هي بمثابة ’حجر الزاوية‘ في إيماننا، ولكنها أيضًا ’حجر عثرة‘ إن لم نتطَّلع بإيمان إلى البشرى السارة، وإن فكرنا بأنّ يسوع الميت، أقل إثقالا من يسوع الحيّ!”
“ولكن، كم من المرات خلال مسيرتنا اليوميّة نحتاج لأن نسمع من يقول لنا: ’لماذا تبحث عن الحيّ بين الأموات؟‘. كم من مرّة نبحث (تبحث؟؟) عن الحياة بين الأشياء المائتة التي لا تتمكن من أن تحييها.”
“لماذا تبحثون عن الحيّ بين الأموات؟ فتسألوني عن كانديد، أين هو من هذا العالم الشرير، الميّت موت الخطيئة. ليت هذه الكلمات تجعلنا نتخطّى تجارب النظر إلى الوراء، وتدفعنا إلى الأمام. فيسوع ليس في القبر، إنه قام من الموت، إنه الحي الذي يجدد دائمًا جسده؛ فجسد المسيح هو أنتم، وأنتم أقامكم يسوع معه، فتتجدد الكنيسة وتتبدل من موت لحياة بكم، فهو يسيِّرها جاذبا إياها نحوه، فتحيا.”
“هذا هو ما تكلمت به مع كانديد؛ عن عمل الله؛ الذي يقيمنا من بين الأموات، فنحيا لا نحن في المسيح، بل المسيح يحيا فينا، كما علّمنا بولس الرسول.”
“واليوم يُطرح هذا السؤال علينا نحن أيضا: أنت! لماذا تبحث عن الحيّ بين الأموات، أنت الذي تنغلق على ذاتك بعد سقوط ما، وأنتِ الذي فقدتِ الأمل من قدرة الله، وأنتَ الذي لم تعد تقوى على الصلاة؟ لماذا تبحث عن الحي بين الأموات؛ أنت الذي تشعر بأنك وحدك ومتروك من الأصدقاء، وربما من الله أيضا؟ لماذا تبحث عن الحيّ بين الأموات، أنت الذي فقدت الرجاء وتشعر بأنك سجين خطاياك؟ لماذا تبحث عن الحيّ بين الأموات، أو حتى أنت الذي تتوق إلى الجمال والكمال الروحي والعدالة والسلام؟”
فقاطعه أمير:
“كمثل كانديد يا قداسة البابا؟”
انزعج رجال الكهنوت من مقاطعة أمير للحبر الأعظم، لكنّ قداسة البابا ابتسم في وداعة، ثم أكمل:
“وهل كانديد وحده من يحتاج إلى تلك الكلمات؟ أنا أحتاجها أيضا. نحن بحاجة إلى هذه الكلمات عندما ننغلق في أيّ شكل من أشكال الأنانيّة والاكتفاء الذاتي، وعندما نسمح للصراعات الأرضيّة، ولأمور هذا العالم بأن تغوينا، فننسى الله القريب، وعندئذ نضع رجاءنا في تلك العبثية الدنيوية، وفي المال والنجاح والسلطة. عندها، تقول لنا كلمة الله: ’لماذا تبحثون عن الحيّ بين الأموات؟‘ لماذا تبحث هناك؟ إنها أمور لا يمكنها أن تعطيك الحياة، ربما قد تعطيك بعض لحظات فرح، ولكن ماذا بعد؟ ’لماذا تبحثون عن الحيّ بين الأموات؟‘. علَّ هذه الكلمات أن تدخل إلى قلوبنا، واليوم عندما يعود كل منا إلى بيته يرددها في قلبه بصمت، ويسأل نفسه: لماذا أبحث عن الحيّ بين الأموات؟”
فهمَّ زياد واقفًا وهو يقول بقدر من الحدة:
“مع كل احترامي لقداسة البابا المعظم، هل لنا أن نتقابل مع كانديد الآن؟ لقد تركنا منازلنا وأعمالنا وأسرنا حتى نلقاه، وهو الذي دعانا إلى أن نجده هنا بالفاتيكان. كما أننا عاينَّاه وهو واقف بجوار قداستكم أثناء الصلاة، لذا فنحن بتنا موقنين الآن من أنه حقيقي، وليس خيالا، أو شبحا مثلا، أو عفريتا، فأين ذهب؟ كل ما فهمت من كلماتكم، أجده عميقًا ومؤثرًا، ولكنني أخشى أن يضيع الوقت في الحديث، فيبتعد عنا كانديد من جديد، وهو الذي كان يقف على بعد أمتار منا. فبالله عليك، أين هو؟”
ابتسم قداسة البابا بحنوّ، ثم وقف بدوره، فوقفنا جميعًا، احترامًا له. وهنا قال قداسة البابا:
“لقد سألني كانديد عن المؤمنين الحقيقيين، فأجبته أنّ الله وحده هو فاحص القلوب والكُلى، وهو الذي يدرك من هم مؤمنوه، وما هو قدرهم. ثم قدمت إليه نصيحة أرجو أن تكون نافعة؛ كل ما في وسعي هو أن أصلي له ولكم، أن يفتح الله أعين قلوبكم، فتدركوا بمشيئته هدفكم الذي تسعون نحوه. قلت له أيضًا عن المؤمنين الأوّلين، الذين دعاهم إيمانهم إلى أن يتركوا العالم بضجيجه، وينشدوا وجه الله الحيِّ في الوحدة، والخلاء، فقصدوا الصحراوات المترامية.”
كفّ قداسته عن الكلام، أشار إلينا أن نقترب منه، ففعلنا، وعندها رفع يديه، فانحنى المطران، والأسقف، وبقية الآباء الكهنة، فانحنينا. ثم راح يغمغم بصلاة صامتة وهو يباركنا.
عندها دعانا الأب فرانسوا برفق إلى أن نستعد للانصراف. همس له أمير قائلًا:
“لكن، أين كانديد؟ هل ترك المكان؟ هل ذهب من هنا؟ أين نجده؟”
تمتم له الأب فرانسوا بدوره:
“لننصرف الآن، لأنّ قداسة البابا يريد أن يعتكف، ولكني سوف أعود لأسأل عن كانديد مجددا. لا تنس أنني صرت معكم الآن، وشريكا في بحثكم عن كانديد، حتى نعثر عليه ثانية، حتى لو كلفنا الأمر أن ننقب عنه في كل بقعة، في كل بلدان العالم. لقد أدركت ذنبي حين تركتكم قبلا، ولن أعود إلى تكرار ذاك التصرف الصبياني من جديد. ثق في كلامي، أرجوك يا سيد أمير.”
« البحث عن كانديد »: الجزء الثالث عشر، الفصل الثاني عشر