لم تستغرق إجراءات السفر سوى بضعة أشهر. عند بداية الربيع كنا نستقلّ الطائرة المتجهة إلى إسطنبول. جلسنا متجاوريْن، تربط بطوننا أحزمة إلى مقاعدنا وكأننا مسخّران لقضاء مهمة قدرية، لا سبيل لنا إلى الفكاك منها.
سألت أمير لأول مرة عن سر رغبته في لقاء “كانديد” هذا، وكيف بدأت قصته معه. التفت نحوي وابتسم، ولم يردّ. ثم أدار وجهه في صمت نحو النافذة، يتطلع إلى الفضاء الأزرق المتجانس الذي صار يغلفنا.
وبعد نحو ربع ساعة مرت المضيفة توزع علينا أكياس الفول السوداني وكؤوسا بلاستيكية ملآنة بالمياه الغازية. وبينما كان أمير يقضم قطع المكسرات التي جمعها في قبضة يده، وجدته يجاوبني عن سؤالي الذي كدت أن أنسى أنني قد طرحته أصلا:
“رينا هي التي أشارت إلىَّ بالبحث عن “كانديد”!”
بغتتني إجابته أولًا، حتى أنّ الأمر استغرق مني بضعة لحظات قبل أن أعلق:
“ألم تقل لي إنك تدرك أن رينا لم تكن سوى خيال، لم تعد تبال بها أو تأخذها على محمل الجد؟”
فأجاب بسرعة:
“أنا لم أقل هذا. كل ما قلت هو إنني تعودت أن أتجاهلها. ولكنني مع ذلك أسمع ما تقوله لي، وإن كنت أتغاضى عن معظم ما تحثّني عليه. ولكنها حين كلمتني عن “كانديد” بالذات، لست أدري، فلكأنها أيقظت يقينًا كان نائمًا بداخلي، منذ أيام الدراسة الأولى، حين بات “كانديد” بطلي المفضل. أحببت فيه البراءة والطهر، في مواجهة العالم الشرير من حوله، كيف أحب ’ليدي كوناجوند‘، حتى في أحلك الأوقات، وبعد أن صارت قبيحة، أصر على الزواج منها. وأسرني احترامه لمعلمه ’بروفيسور بانجلوس‘، وتبجيله له، حتى من بعد أن اكتشف كذب مقولته إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان في هذا العالم البديع. حينما أشارت إلىّ رينا بأن أذهب لأبحث عن “كانديد”، فوجئت بسحابات اليأس تنقشع من أمام عينيَّ، بل تملكتني قوّة جبارة، وكأنها أخرجت المارد من القمقم.”
انتظر لحظة ليبحث عن موضع كلماته لديَّ، ثم أضاف:
“تفكرت في الأمر مرارًا، وأعدت قراءة الرواية وبحثت عن موضع المزرعة التي استقروا بها في نهايتها؛ في القسطنطينية، الاسم القديم لإسطنبول، البلدة التي نتّجه إليها الآن. لم أتردد بعدها، وكنت أنت يا عزيزي؛ عاطف بك عزيز، الوحيد الذي تفكرت بجدارته ومقدرته في أن يصحبني في هذه الرحلة. وحين علمت من رينا في ما بعد بموافقة السيدة زوجتك على سفرك معي، اطمأن قلبي.”
عندها، نظرت إليه ملتاعًا، وقد استحوذ على مشاعري وجس شديد. كيف أدرك الرجل ما دار بيني وبين ثريا، أو صورتها المعلقة في حجرة المعيشة بشقتي؟ هل أكون قد قلت له ذلك من قبل، ونسيت مثلًا؟ لابد أني فعلت، واستغل أمير زلّتي وأراد أن يوحي إليّ بحقيقة وجود رينا، بل وبمقدرتها على التحاور مع أرواح الراحلين عن دنيانا، وبالذات زوجتي المحبوبة ثريا. إنه يستغل مقدار محبتي لها ويتلاعب بي من جديد، كما فعل قبل سنوات. يا له من رجل شرير! إنه لا يني عن ازدراء كبار السن، بل ويسخر منهم، ويتلذذ بخداعهم! وفي لحظة واحدة أشحت بوجهي بعيدًا عنه حتى لا يلمح دموعي التي بدأت تنساب من حسرتي على ما آل إليه حالي، وقد صرت أسيرًا مربوطًا بمقعد طائرة متجهة إلى إسطنبول، لإحراز مقلب جديد، أعده ذاك الرجل الأرعن، الذي لا يكفّ عن تدليسي، والتلاعب بمشاعري، بكل صفاقة وتجاسر.
أما أمير فيبدو كأنه شعر بحزني، وربما لمحني وأنا أبكي. فأخذ يربت بيده فوق كتفي وهو يقول:
“ماذا بك يا أستاذ عاطف؟ ما الذي أغضبك؟ ما الذي قلته فجرحك؟ أرجوك بِح لي وفسّر، فيتسنى لي أن أعتذر منك على الأقل، أترجاك يا أستاذ عاطف!”
ما بين دموعي وجدتني أتساءل غاضبًا وقد تحشرج صوتي بدموعي المكبوتة:
“كيف علمت بأمر ثريا؟”
فأجاب أمير في الحال:
“ومن هي ثريا؟”
فجاوبت مفسرًا وأنا أتعجب من بروده:
“ثريا زوجتي!”
فرد هو ببراءة ظاهرة:
“أنا لا أعلم عنها شيئًا! ألم تقل لي إنها رحلت قبل سنوات؟”
فقلت محتدًا، وقد فاض بي الأمر:
“إذن فلماذا قلت إن رينا أعلمتك بموافقة ثريا على سفري معك؟”
فابتسم متخابثًا:
“أنا؟ أنا لم أقل هذا! وإن كنت قد قلته، فبالتأكيد لم أقصده!”
دفعت غاضبًا:
“قل لي إذن ما عنيت حين رددت بموافقة زوجتي على السفر؟”
أجاب أمير بكل هدوء لمَّا أدرك أخيرًا سر انفعالي:
“يا عم عاطف، لقد قلت لي حضرتك إنك شعرت برضاء زوجتك ـ رحمها الله ـ عن رحلتنا! أنسيت؟”
تطلعت نحوه آملًا في التحقق من صحة قوله، ولكني لم أجد سوى وجهه الجامد، الخالي من أيِّ تعبير.
في المطار وجدت الأتراك يشبهوننا جميعًا. كنت معتقدًا ـ بطول الأيام ـ أنهم أجمل وأبهى مما وجدتهم عليه. في بلدنا كان الناس يصفون أبيض البشرة، ناعم الشعر بأنّ به عِرقًا تركيـَّا، ورثه عن أم أو جد له. لما أدرك ضابط الجوازات أننا من مصر، بادرنا بالعربية:
“السلام عليكم!”
رددت عليه بالعربية أيضًا، ولكنه لم يفهم، فحاولت استخدام بضعة كلمات إنجليزية أعرفها، لكنني ذهلت من عدم تمكنهم من التخاطب بأي لغة ما عدا التركية. بالكاد نجح أمير في استخدام إنجليزيته وفرنسيته، مع رصيد كثير من لغة الجسد والإشارات، حتى يصف لنا بعض الإرشادات للوصول إلى ميدان “تقسيم” في شمال المدينة، إلى الجانب الأوروبي من إسطنبول.
في الطريق نحو الميدان الشهير، تبين لكلينا أن المدينة مكتظة بالبنايات والشوارع وبضعة حدائق هنا أو هناك. ولكن لا مكان بها لمزرعة أخينا “كانديد” المزعومة. كان الميدان مزدحمًا بالسياح وبالسكان الأتراك وخاصة الباعة، والأكشاك الصغيرة لبيع المأكولات من لحوم ودجاج ومختلف أنواع الحلوى. وفي منتصف الميدان يقوم نصب شاهق رمزًا لثورة أتاتورك الذي يتوسطه ضابط وقاض فوق قاعدة المنصة. ومن حول التمثال تقع بضعة حدائق تشبه تلك التي كانت في ميدان التحرير بالقاهرة قديمًا. ولكن أيٌّا من تلك الحدائق، ما زال أصغر من أن يكون المزرعة التي كنا بصدد البحث عنها لنصل إلى “كانديد” فيها. وكالعادة فشلنا في التخاطب مع أيّ من الأتراك الذين التقيناهم، إذ لا يتحدثون إلا بلغتهم. صرنا ندور وندور، وفي النهاية قلت لأمير:
“أشعر بالجوع، بعد كل هذه الحركة الدؤوب، وتلك الروائح الشهية التي تحيط بنا من كل اتجاه. فلنجلس قليلًا لنأكل شيئًا، ثم نستأنف البحث.””
وفعلًا اتجهنا نحو مجموعة من المطاعم المتجاورة التي تقع أمام مسجد كبير في أحد جنبات الميدان. جلسنا نقضم لفائف اللحم الضأن المشوي، ونشرب كوبي البيرة المثلجة، ونحن نتندر من عدم مقدرتنا على مخاطبة أيّ من هؤلاء البشر المكتظ بهم الميدان الشهير. قلت لأمير إنه لم يقَدِّر ـ رغم كل إعداده الدؤوب للرحلة ـ أنّ الأتراك لا يتكلمون الإنجليزية. وبينما نحن نتحدث، جاء إلينا صوت رجل، آتيًا من المنضدة المجاورة لنا:
“الإخوة من مصر؟”
كانت لكنته شامية، فالتفتّ نحوه وأجبت:
“نعم نحن مصريان.”
فسحب الرجل كرسيه، وانضم إلى منضدتنا وهو يقول ضاحكًا:
“فعلًا! هؤلاء الأتراك غريبون حقًا. فها أنا مثلًا قد مكثت هنا عامًا أو أكثر قليلًا، ولم أجد مع ذلك وسيلة للتخاطب معهم، حتى اضطررت إلى تعلّم بعض الكلمات التركية لكي أستطيع أن أتمم أعمالي هنا. يا (زلمة) بعضهم لا يعرف حتى اسم الأرقام بالإنجليزية!
أنا اسمي زياد، من بيروت!”
رد أمير بصوته الرتيب:
“وأنا أمير، وهو عاطف، من الإسكندرية.”
كان زياد رجلًا ضخمًا، ذا ابتسامة واسعة، ولفتات تنمّ عن أخلاق حميدة وثقافة واسعة. وعرفنا بعد قليل بأنه جاء إلى إسطنبول برفقة زوجته التي تعمل في مجال التنمية التابع للأمم المتحدة، وهو يمارس نشاطًا تجاريًّا ما، مرتبطًا على نحو ما بالسيارات أو الحافلات، أو شيء من هذا القبيل. سألنا:
“وما الذي جاء بكما إلى إسطنبول؟”
فأجابه أمير على الفور:
“هل سمعت حضرتك عن فولتير؟”
قال زياد باستغراب:
“نعم، بالطبع!”
فأضاف أمير فرحًا:
“جئنا إلى إسطنبول لنبحث عن مزرعة “كانديد”! هل تعرف من يكون “كانديد”؟”
فضحك زياد وضحك، وصار جسده الهائل يهتز بشدة. خشيت أن يفهم أمير ـ خطأً ـ أنه يسخر منه، فقلت على الفور:
“أمير ابني متخصص في الأدب الفرنسي يا أخ زياد، وهو بصدد تقديم بحث عن رواية “كانديد” لفولتير، لذلك جئنا إلى القسطنطينية ـ أو إسطنبول حاليًا ـ بحسب الرواية، لنبحث عن المزرعة التي كتب عنها فولتير.”
نظر إليَّ أمير ممتنًا، وهو لا يكاد يصدق أنني قد فهمت كل ما قاله لي عن الرواية خلال رحلة الطائرة. وإذا بزياد يبادرنا قائلًا:
“لا بد أن نزرع الحديقة. فعلًا! هذا هو ما قاله “كانديد” لأصحابه. لقد صارت تلك الجملة أشهر من الرواية نفسها. ولكنك لن تجد مزرعة هنا يا سيد أمير، لابد أن مزرعة “كانديد” كانت في الأناضول، على الجانب الأسيوي من المدينة، هناك وراء تلك التلال.”
وأشار بيده نحو الجامع الكبير وما وراءه، فتبدت لنا على البعد تلالٌ عالية. فسأله أمير:
“وكيف نذهب إلى هناك؟ اشرح لي بدقة أرجوك، لأن أحدًا هنا لا يفهمني أو أفهمه!”
فرد زياد قائلًا بلطف:
“لا عليك يا سيد أمير، فاليوم عطلتي، ولا مشاغل عندي، كما أن زوجتي تعمل الآن. دعونا نذهب سويًّا، إذ بتّ متشوقًا مثلكما لمعرفة ما ستجدان هناك. كما أن بضعة الكلمات التركية التي تعلمتها، قد تبدو كمثل كنز في الأناضول، إذ إن سكانه أكثر قروية من الأتراك ها هنا.”
فقال أمير وهو ينهض من مقعده، كأن عقربًا قد لدغته:
“فلنبدأ رحلتنا الآن إذن، حتى ننتهي منها قبل غروب الشمس.”
تبعنا زياد من طريق إلى آخر حول أطراف الميدان، حتى وصلنا إلى حيث كان قد صفّ سيارته. جلس أمير بجواره، ومكثت أنا بالمقعد الخلفي. وأخذتنا سيارته إلى سطح جسر “محمد الفاتح” الضخم، الذي عبر بنا خليج البوسفور الشهير، بمياهه المتأججة الغاضبة، الفاصل ما بين قارتي أوروبا وآسيا.
وبالفعل بدأت المجمعات السكنية تقل تدريجيًا ولاحت أخيرًا مساحات خضراء قد تبشر بوجود مزرعة “كانديد” المزعومة. وحين صرنا محاطين بالاخضرار من الجانبين، ترك زياد الطريق السريع عند أول مَخرج، فقادتنا طرق فرعية صغيرة إلى مطعم على حافة مدينة صغيرة اسمه “مطعم الإسراء” كما يبدو، من الكلمات التركية المكتوبة بالحروف اللاتينية من فوقه. توقف زياد عنده، ونزلنا متجهين إلى داخل المطعم، ليتسنى لنا أن نبدأ رحلة البحث عن “كانديد”.
لم يكن هناك أحد سوانا داخل المطعم، فالوقت كان ما بين الغداء والعشاء. طلبنا أكوابًا من عصير الرمان الطازج، ولفافات الـ”دونر” الشهيرة هناك. بصعوبة استطعت أن أكمل نصف طعامي، إذ كنت قد أكلت قبل نحو ساعة أو اثنتين بميدان “تقسيم”. أما العصير فكان رائعًا. أمير وزياد ـ على الجانب الآخر ـ أكلا بشهية واضحة، وهما يخططان لسؤال النادل العجوز عن “درويش” كان يسكن المنطقة المجاورة لمزرعة “كانديد” في الرواية. كان زياد أكثر واقعية من أمير، ولكنّ حماسه لتبيان نتيجة المغامرة التي وجد نفسه يخوضها، دفعه إلى أن يجاري أمير في اندفاعه. أملى عليه أمير صيغة السؤال، ثم أشار زياد للنادل، الذي جاء يترنح من ناحية إلى أخرى كالبطة، بفعل السن، وتقوس ساقيه. قال له زياد بالتركية:
“هل تعرف عن عائلة درويش قديم؛ كانت تمتلك مزرعة حول هذا المكان؟”
بوغت العجوز بالسؤال. تلفت حوله كأنه لا يصدق أن هؤلاء الأغراب يجلسون أمامه هكذا ويسألونه عن خصوصية البلدة وتاريخها، وباللغة التركية. حك الشيخ ذقنه متفكرًا وهو يتطلع نحو السقف لعدة دقائق. ثم رفع يده مستأذنًا، وانصرف في صمت نحو المطبخ، عبر باب خشبي صغير. تبادلنا النظرات متعجبين من أمر ذلك العجوز الذي تركنا هكذا واختفى.
مرت نحو ربع ساعة، ونحن جالسون في انتظار عودته، على الأقل من أجل أن ندفع ثمن الطعام ونتعرف على عائلة الدرويش ها هنا، أو نمضي، فنواصل بحثنا عن “كانديد” هذا في مكان آخر. حتى زياد، أصابه التوتر مثلنا، وصار يتعجل عودة النادل لئلا نتأخر عن أداء مهمتنا. ثم انفتح الباب الخشبي فجأة، وعاد الشيخ يتهادى نحونا، حتى وصل إلى جوار زياد، وقال له:
“عفوًا يا بنيَّ، ولكنّ ذاكرتي لم تعد كما كانت. إلا أن زوجتي أصغر مني، وتعلم كل شيء عن بلدتنا، بحكم علاقاتها الوثيقة مع النسوة هنا. هي تعرف أن درويشًا من طائفة المولوية، آتيًا أصلًا من مدينة ’قونية‘، كان يمتلك مزرعة هناك نحو الشمال منذ نحو بعيد، لذا تدعى ’مزرعة القوني‘ وقد تركها لأبنائه وأحفاده من بعده، هكذا لسنين عديدة، وهي الآن ملك لواحد من الدراويش الراقصين، وله أتباع كثيرون يأتون إليه كل مساء ويرقصون وهم يبتهلون ويضربون الدفوف.”
ما إن انتهى زياد من ترجمة ما قاله الكهل المسن، حتى دفعنا الحساب، وانصرفنا على الفور، متجهين إلى “’مزرعة القوني” تلك، ولم تكن تبعد كثيرًا عن المطعم. توقفنا بالسيارة مرتين نسترشد عن مكان المزرعة، وحين وصلنا، تركنا السيارة مصطفة على جانب من الطريق. وترجلنا نحو المنزل الحجري الذي كان يتوسط مساحات خضراء في شكل أحواض مستطيلة، مزروعة بمختلف النباتات في كل مستطيل منها. حين اقتربنا من البيت شهدنا شيخًا تنمو فوق رأسه عمامة طويلة تتراقص بين أفرع النبات، منحنيًا فوق أحد الأحواض، يعبث بأصابعه بالنباتات أمامه، ويجمع بعضها في سلة من الخوص المجدول مركونة بإهمال إلى جانبه.
لما رآنا الشيخ نقترب، انتصب وحيّانا بابتسامة طيبة، ولحية بيضاء تصل نحو منتصف صدره. كان يرتدي جلبابًا أبيض طويلًا، ومن فوقه عباءة سوداء فضفاضة، ويضع فوق رأسه قبعة طويلة مثل الطربوش، ولكنها بنّيّة اللون. سأله زياد من بعيد عن الشيخ القوني صاحب المزرعة، فضحك العجوز وهو يركض نحونا في سعادة وبشر، بخفة وليونة مناقضتين تمامًا لمظهره المسن. لما وصل إلينا فتح ذراعيه مرحبًا بكل منا على حدة، ثم دعانا إلى الدخول إلى البيت، وهو يقول ببشر:
“مرحبًا بكم في داركم!”
دخلنا باحة البيت المنمقة، التي أفضت بنا إلى بهو واسع نظيف مفروش بالسجاد وإلى جانب الحوائط، تناثرت وسادات حريرية في شكل دوائر للجلوس. قال زياد للتركي مرددًا مقولة “كانديد” في الرواية:
“لابد أنك تملك أرضًا واسعة..”
فرد العجوز:
“ورثت عشرين فدانًا عن جدي، وورثت عنه أيضًا قوله إن العمل يبعد عنا ثلاثة شرور وهي الضجر، والشر، والحاجة!”
ترجم زياد كلمات الشيخ مبتسمًا، وهنا صرخ أمير مناديًا:
“هو.. هو.. هو الشيخ التركي.. أقصد حفيد التركي الذي لاقاه “كانديد” فقال له الكلمات ذاتها.. هو.. هو!”
فضحك الشيخ، ونظر نحو أمير متفحصًا إياه، من رأسه وحتى قدميه. ثم سأل زياد مستطلعًا:
“لماذا ينبح صديقك هو.. هو.. هو؟ هل أصيب بالسعار يا ترى؟ هل عضه كلب أو ذئب ربما؟ لا عليكم، فلدينا لكل داء دواء!”
فسَّر زياد بدوره كلمات الشيخ، فضحكنا أيضًا. أما أمير فتوقف عن الضحك فجأة، وقال اسأله عن “كانديد”، اسأله.. فلم يردّ زياد طلبه الملح:
“هل مولانا يعرف شخصًا اسمه “كانديد”؟”
ولكنّ الشيخ كان قد نادى ببناته أن يأتين بشراب للضيوف. وفي التوّ جئن بكؤوس بلورية براقة، وإبريق فضي، ملأنها بشراب هو مزيج من عصير البرتقال والليمون والأناناس والنعنع، مع ثمار فول الصويا المسكرة، وقدمنها إلينا؛ شراب كألذّ ما شربت في حياتي. ثلاث بنات مثل القمر البدر في بياضهن المرمري، شعرهن باقات معقوصة من أشعة الشمس الذهبية، تفوح منهن رائحة زهر الفل والياسمين، ويرفلن في ثياب فيروزية لامعة. أمرنا جمالهن الأخاذ بالصمت مبهورين. لبث زياد ذاهلًا من حسنهن، بل وحتى أمير لم يسعه إلا أن يمتثل لغوايتهن ويهدأ مثلنا.
لم يقطع سكوننا سوى انصراف بنات الشيخ، وكلماته وهو يتمايل برأسه من ناحية إلى أخرى وكأنه يستمع للحن سماوي يطربه:
“سألتني يا زياد عن شخص اسمه “كانديد”، أليس كذلك؟”
فأومأ زياد ببهجة، أما الشيخ فواصل حديثه قائلًا:
“جارنا في المزرعة الغربية هناك، اسمه “كانديد”. انه رجل غريب حقًا، لا يكبر أو يشيخ أبدًا، لا هو ولا أيّ من أقاربه قرينته وأخيها، وحتى رفيقه الشيخ الذي حدثني جدي لأبي ـ كما حدثني أبي ـ عنه؛ فلقد كان شيخًا عندما كان جدي ـ وكما كان أبي من بعده ـ صبيًا صغيرًا يلعب. وكبر جدي وكبر أبي، ثم شاخ جدي وشاخ أبي، ورحل الاثنان عن عالمنا، وهو بعده شيخ. ثم جئت أنا طفلا، وكبرت، وتزوجت، وشخت، وهم بعدهم كما هم؛ “كانديد” الشاب، وزوجه القبيحة « كوناجوند »، وأخوها الرجل المتعجرف، والشيخ « بانجلوس ». كلهم ظلّوا كما هم، لا يزيدون في العمر يومًا، ولا يموت أحد منهم، هل يعرف صديقك سرّهم يا زياد؟”
أشار زياد للشيخ التركي مستأذنًا أن يترجم لنا كلماته أولًا. ما إن انتهى زياد، بل وقبل أن ينتهي، انتفض أمير من مجلسه فوق الوسادة الحريرية، فانسكب بقية العصير الساحر فوق السجادة تحته، ولكنه لم يأبه له، بل صار يقفز في الهواء ضاحكًا كطفل حصل على لعبة طالما حلم باقتنائها، وهو يصيح نحوي:
“قلت لك.. قلت لك.. “كانديد” حيّ لا يموت أبدًا.. “كانديد” حيّ.. “كانديد” حيّ.. قلت لك.. قلت لك..”
سرَت موجة ضحك ما بيننا، صارت تعلو وتعلو حتى رجعت بنات الشيخ القوني مستعلمات عن سر ضحكنا الذي ملأ البيت. وسرعان ما صرن يشاركننا الضحك كالعدوى المستشرية.
أما عن أمير فأعياه الضحك، فسكن برهة، ثم دفع بكلتا يديه يهز زياد العملاق من كتفيه هزًا، وسط تعجبنا جميعًا، فلم يمض على تعارفنا إلى الرجل إلا بضع ساعات قليلة، وهي لا تسمح أبدًا بإزالة الكلفة على ذاك النحو. أما زياد فقد تسللت الفرحة إلى روحه فعلًا، فلم يُبدِ ضيقًا أو تأففًا، ولكنه سأل:
“ماذا تريد يا أمير؟ ماذا؟”
أدرك الشيخ عندها أننا لم نكن سوى جماعة من المخابيل، فصار يتمايل في مجلسه من ناحية إلى أخرى، والبهجة الطفولية لم تزل تعلو وجهه. صرخ أمير بزياد:
“اطلب منه.. اطلب منه أن يرشدنا إلى مزرعة “كانديد” على الفور!”
فتطلع زياد نحو العجوز مستعطفًا:
“سيدي العزيز..”
فقاطعه الشيخ:
“لا سيّد بيننا، فكلنا عبيد السيد الأوحد!”
وأشار بسبابته إلى فوق، نحو السماء. فأطرق زياد لحظة ثم قال:
“هل يسمح مولانا بأن يقودنا إلى مزرعة كانديد؟”
كان الشيخ لا يزال يتأرجح بجذعه من ناحية إلى أخرى وأجاب:
“كنت أود ذلك يا زياد يا بنيّ، ولكن “كانديد” رحل عن هنا قبل نحو شهر. لقد كان يأتي إلينا كل مساء ويصنع الذِكر معنا، وسألني ذات يوم عن سبب غياب الكاثوليكيين عن اجتماعنا. في الحقيقة لم أكن أعرف من يكون هؤلاء الكاثوليكيون، فلم أردّ. لكنه كان دائم الشكوى من أنه يبحث عن شيء آخر، شيء جديد، شيء مشابه لكنه مختلف. في النهاية انقطع عن المجيء، وبعد أيام سمعنا بخبر رحيلهم من جيراننا المشتركين.”
سأله زياد بعد أن اجتاحته حمّى أمير، فصار يهذي مثله:
“وهل علم مولانا مقصده؟”
فابتسم الشيخ متمايلًا:
“يقولون إنهم ربما رحلوا شرقًا، لست أعلم أنا، فالله هو وحده السميع، والعليم ببواطن الأمور. قم يا زياد يا بني، قم، فالطريق أمامكم بعده طويل، والشمس على وشك المغيب. ولكن دعني أسألك قبل أن تمضي، هل تعرف شيئًا عن الكاثوليكيين؟”
ولكن زياد لم يستسلم فسأل الشيخ مبتسمًا بدوره:
“نعم، أعرف الكثير عنهم، لكن الوقت لا يتسع الآن. بالله عليك يا مولانا، أليس لديكم ما يرشد أصدقائي إلى مقصدهم؟”
فتهلل العجوز التركي، وهو مازال يتمايل وأجابه:
“المقصد هو الواحد الأحد! رب العالمين! لكن قُل لي، هل أصدقاؤك من الكاثوليكيين؟”
فأجابه زياد باحتدام:
“لا ليسوا كاثوليكيين! ولكن ماذا عن “كانديد” وعائلته، نحتاج أن نتعرف إلى مكانهم!”
فرد الشيخ متبسمًا:
“كل الحاجة إنما إلى واحد!”
وأشار إلى أعلى. ثم أكمل:
“أما عنهم فلقد قصدوا ’تايلاند‘؛ ذاك البلد البعيد، من بعد أن ادَّعى المدعو بانجلوس ـ حكيم زمانه ـ بأن يبحث “كانديد” عن الحقيقة هناك، في وسط العاصمة ’بانكوك‘، في ـ والعياذ بالله ـ معبد بوذا! أسرع يا زياد وارحلوا بسلام، وإلا فلتبقوا وتصنعوا الذ~كر معنا، فالإخوة بعدهم قادمون، ولا يصح أن تتركوا مجلسنا بعد أن يحضروا.”
****
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.
البحث عن كانديد: الجزء الثالث – الثاني