أيدت محكمة الاستئناف الخاضعة لسلطة “أنصار الله” (الحوثيين) في صنعاء حكما بالإعدام بحق ناشط بهائي، هو حامد بن حيدرة، مع مصادرة أملاكه، وإغلاق كافة المؤسسات الدينية والتربوية للدين البهائي في اليمن، وذلك على خلفية تواصل الناشط المدان مع “بيت العدل”، كبرى المؤسسات الدينية البهائية في العالم.
مقرّ “بيت العدل” هو في مدينة حيفا الإسرائيلية، ما يسهّل الاتهام بالعمالة كواجهة للحكم، وإن تضمنت النصوص المرفقة تجريما لدفع يمنيين مسلمين إلى الردة عن دينهم.
ما يتعرض له البهائيون في اليمن ليس حالة فريدة، بل هو يتكرر في العديد من المجتمعات التي يغلب عليها الحضور الإسلامي. بعضهم يعاني من التضييق من السلطات، فيضطر لتجنب الظهور في العلن، والبعض الآخر يتعرّض للاضطهاد الصريح.
الحالة القصوى بالنسبة للبهائيين هي في إيران، والتي تعود أصول البهائية إلى قرنها التاسع عشر. وفي إيران كان للبهائيين دور مشهود في الثقافة والاقتصاد في ظل الشاه، قبل أن تعمد “الجمهورية الإسلامية” إلى تجريم فعلي لأي نشاط خاص أو عام يقدمون عليه. هم ممنوعون من الوظائف العامة ومن التسجيل في الجامعات، وجهودهم لإقامة شبكة تعليمية لناشئتهم تواجه بالقمع والملاحقة، فيما السجن والإعدام مصير من تطاله الذرائع، مهما كانت واهية.
حال الدين البهائي في إيران يقابله مصاب الجماعة الإسلامية الأحمدية في باكستان. السلطات هنالك تمعن في وضع العراقيل الإدارية أمام الأحمديين، فيما الأوساط الدينية الإسلامية المتشددة تسمهم بالكفر والردة وتستهدفهم بالمطاردة والإساءة والقتل. للأحمدية حضور محدود في فلسطين، وما عدا ذلك فإن تواجدهم في المحيط العربي يكاد أن يقتصر على الوافدين من الهند وجوارها.
على أن المنشورات والتسجيلات الطاعنة بالأحمدية، كما بالبهائية، هي جزء ثابت من أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر. يشكل هذا الطعن مدخلا للتأسيس لشدة في التعامل مع الغير، تبتدئ مع البهائيين والأحمديين، على ما هم عليه من قلة عدد وضعف حيلة، لتصل إلى كل من يفترق عن المعيارية الشمولية التي يتسابق لترسيخها العديد من دعاة هذا الفكر، على اختلاف توجهاتهم وتضاربها.
نمط الطعن تراتبي في مراحله، يباشر بالتخوين (الدنيوي) وتضخيم الخطر والضرر، وما يقتضيه من عقوبة للفرد وإقصاء للجماعة، ثم ينتقل إلى التكفير (الديني)، وتعظيم الإثم والأذى، وما يستتبعه من ذم وتشتيت وقتل.
تشهد الساحة الفكرية العربية ما يقارب الإغراق لتأكيد “عمالة” البهائية للصهيونية، فالمركز العالمي للدين البهائي هو في إسرائيل، والبهائية تسعى إلى كسب المؤمنين من كافة الأديان ولكنها تستثني اليهود، ثم أن المجمّع البهائي في حيفا، بما فيه حدائقه المعلّقة، قد أقيم على أراض عربية استولت عليها إسرائيل. على أن كل من هذه المزاعم ينطوي على مغالطات تبطله.
كانت الدولة العثمانية، في القرن التاسع عشر، قد فصلت بين “بهاء الله” وأخيه الأكبر «صبح الأزل»، المنفيين من إيران، بعد أن تواجها على زعم الأحقية في الميراث الديني لمؤسس “البابية”، الحركة المهدوية التي تحولّت ثورة فعلية في مواجهة الدولة القاجارية في إيران، والتي من رحمها ولدت البهائية. فوُضع “صبح الأزل”، الرافض لمزاعم أخيه بأن “الباب” جاء مبشرا بـ “البهاء”، في الإقامة الجبرية في قبرص، فيما قيّدت حركة “بهاء الله” بين عكا والجليل وحيفا، حيث توفي ودفن. وبجوار ضريحه جرى تشييد المجمع البهائي في المراحل التالية. أي أن ارتباط “بهاء الله”، ومن بعده الدين البهائي، بفلسطين، سابق بعقود عدة لقيام دولة إسرائيل.
وليس صحيحا أن الدين البهائي لا يسعى إلى كسب اليهود، بل أن قرابة النصف من البهائيين في إيران هم من أصول يهودية، رغم أن اليهود هنالك أقلية ضئيلة. بل كان السؤال في أوساط علم الاجتماع عن الدافع وراء إقدام العديد ضمن أقلية مضطهدة، أي اليهود في إيران، حيث كانت الفتاوى تحقّرهم وتقول بنجاستهم وتمنعهم من الخروج من منازلهم عند تساقط الأمطار، إلى اعتناق معتقد ديني يبقيهم في خانة الأقلية المضطهدة.
وكما في إيران، كذلك في سائر أنحاء العالم، تضم المجتمعات البهائية مؤمنين من أصول مختلفة بمن فيهم العديد من اليهود. الاستثناء الوحيد الذي اعتمدته الجالية البهائية في إسرائيل، لمنع الاحتكاك مع المتشددين الدينيين في بلاد تحتضن مقاماتها المقدسة، هي في الامتناع عن الدعوة الدينية في صفوف اليهود الإسرائيليين. يمكن الاختلاف حول صواب هذه الخطوة من خطئها، ولكن شتان بينها وبين الزعم الهادف إلى الطعن.
وبخصوص ملكية بعض العقارات التي جرى تشييد مؤسسات بهائية عليها في حيفا، فالمزاعم متضاربة. والحري بالتأكيد، من جانب جهة تريد لنفسها أقصى درجات الالتزام بالقيم، كما هو حال الجماعة البهائية، تقصي الحقائق وتجلية الأمر. غير أنه ليس في القضية ما يستوجب افتراض سوء النوايا.
أما الأحمدية، فدعوى عمالتها صاحبت نشأتها في القرن التاسع عشر، في مدينة قاديان الهندية التي كان يحكمها البريطانيون. وكان مؤسس الأحمدية قد طالب بالفعل بالامتناع عن محاربة البريطانيين، فحظي بدعم منهم. ومطالبته هذه جاءت نتيجة لقراءة واقع القوة والتي هي لغير صالح المسلمين، وإلى رغبة بالإصلاح واستنهاض مجتمعه، وإن كانت ضمن إطار غيبي يجعل منه المسيح المنتظر. وفي حين أن الأحمديين في المراحل التالية تفرقوا بين مثابر على تثمين الحدث الغيبي، وبين من يدرجه وحسب في إطار ظهور مجدد للدين على رأس كل قرن كما ورد في كتب الحديث، فإن الجماعة الأحمدية أظهرت طاقة في التماسك والإقدام على مدى العقود. ورغم انتفاء الحجة، فإن دعوى العمالة لا تزال لاصقة بذكر هذه الجماعة في الناتج الفكري الإسلامي.
دعوى “عمالة” البهائية أو الأحمدية ذريعة وحسب للاستباحة بالطعن. أما بيت القصيد، فهي أن الدين البهائي يناقض الدين الإسلامي. وهو بالفعل يناقضه. وأن المعتقد الأحمدي ينفي بعض المسلمات لدى رجال الدين المسلمين. وهو بالفعل ينفيها.
والدين الإسلامي، بدوره، يناقض الدين المسيحي، وغيره. فكما أن الطرح الإسلامي يبطل النهائية التي أرادتها المسيحية لظهور السيد المسيح على أنه الفادي للبشرية وعلى أن الإقرار به ربا هو السبيل الأوحد للخلاص من الخطيئة الأولى والفوز بالحياة الأبدية، ويجعل من قبول دعوة الرسول محمد شرطا للثواب والخلود في الجنان، فإن الدين البهائي بدّل المفاهيم، الإسلامية والمسيحية واليهودية وغيرها، ليجعل من قدوم بهاء الله إذعانا بوحدة الأديان والانضواء ضمن منظومة جديدة جامعة للعدل.
وكما أن الدين الإسلامي يعتبر رسول الإسلام “خاتما للنبيين”، بعد أن كانت هذه العبارة صفة “ماني” الرسول (الغائب عن التاريخ الديني الإسلامي) في القرون السابقة لظهور الإسلام، وكما أن العديد من رجال الدين المسلمين يفترضون بأن كتب التوراة والإنجيل، قبل التحريف الذي يقولون به وبعده، تنضوي على إشارات إلى الرسول، فإن العقيدة الأحمدية اعتبرت بأنه في بعض الآيات القرآنية ذكر صريح لمؤسسها.
الإيمان الديني يختلف بطبيعته عن التصديق العقلي، وإن كثر الزعم بخلاف ذلك. وبطبيعة الحال، ليس المسلمون من أتباع المذاهب المشهورة ملزمين بقبول الدعوة البهائية أو الأحمدية. بل حقهم أن يرفضوا كل منهما، سواء من خلال الإعلان عن تناقضها مع الإيمان كما هو مستقر في قلوبهم، أو من خلال التفنيد التاريخي لظروف نشأتها. على أن الظاهر أن الأمر لا يتم ضمن إطار احترام حق الآخر بقناعاته، وحقه بأن ينتقد بدوره قناعات الناقد ويرى فيها الخطأ، وفي قناعاته هو الصواب. بل القاعدة، والتي لا شواذ عنها على ما يبدو في عموم المكتبة العربية، هو أن القول بالخطأ يأتي دوما مرفقا باتهام بالشر.
لا يستقيم أن يدعو الفكر الإسلامي غير المسلمين إلى الإسلام، وأن يدافع عن حقّه بإيصال الرسالة الإسلامية إلى كافة أصقاع الأرض، وأن يبتهج حين يعتنق المؤمنون الجدد الدين الإسلامي، فيما هو في الآن نفسه يرى مساعي التضليل ومكائد التفتيت في كل دعوة توجّه إلى جمهوره للإيمان بغير الإسلام.
هل الغربيون راشدون قادرون على اعتبار الإسلام وغيره، فيصح بالتالي أن تصلهم دعوته ليزنوها قبولا مرحبا به أو تركا لا ضرر منه، فيما المسلمون في بلادهم قصّار، ضعيفو إيمان، مستوجبون للوصاية، عاجزون عن أي اعتبار، عرضة لأن يضللهم أي قول، وإن فعلوا وقعوا في فخ المؤامرة؟
أم هل أن في الأمر بطشاً فكرياً يرضى لنفسه ما لا يجيزه لغيره؟
الجواب، استقرائيا، هو في أن نمط الطعن، والذي يجعل من البهائية عميلة للصهيونية ومن الأحمدية أداة للبريطانيين، يرى كذلك في الوهابية بذرة بريطانية ثم أميركية، وفي العلاقمة الرافضة عملاء للغزاة. وفي جميع الأحوال، بعد استتباب التخوين، المعنوي كما بالأنساب، فهؤلاء مجوس وأولئك يهود في أصولهم المطعون بها، يسهل الانتقال إلى التكفير، من خلال تسطيح العقائد والمبالغة بإبرازها وإخراجها عن سياقاتها، من البداء والتجسيم، إلى المتعة ورضاعة الكبير. ومن بعد هذا وذاك، تنتقل إراقة الدماء من المنكر والمحرم والمكروه إلى المباح ثم المستحب والواجب والمعروف. ليس الفكر ما يقتل، على أن القتل يهون مع توفّر الفكر الذي يتيحه ويمنحه الإطار والدعم والتأييد.
هو بطش فكري وهي آفة متجذرة في الفكر العربي والإسلامي. قد لا يكون من الممكن آنيا تصحيح الاعتلال في هذا الفكر، ومنعه من تأصيل المزيد من وسائل الأذى. غير أن الفرصة، عند الحد الأدنى، لا تزال متاحة لإنقاذ بعض الضحايا، مثل الناشط البهائي اليمني، حامد بن حيدرة، ومعه سائر البهائيين في بلاده.