شرعية المنظومة الأسدية في حال تمرير انتخابات عام 2021 ستبقى شرعية منقوصة وقيد الدرس لأنها خاضعة للنفوذ الروسي ولأن المنظومة تبدو وكأنها التوأم السيامي للنظام الإيراني.
تلامس “الحروب” السورية مشارف عقدها الثاني في مارس 2021، مخلفة مأساة إنسانية هائلة ودماراً واسعاً، فيما لم تفلح الجهود المبذولة في التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع متعدد الأقطاب والأوجه، وإيقاف معاناة المدنيين وآثار الانهيار الاقتصادي وترسيخ التغيير الديموغرافي. وبينما يستعد الرئيس السوري لتجديد ولايته وتستمر الأمم المتحدة بشكل عبثي في تغطية مسار سياسي عقيم، تنقسم سوريا عملياً إلى ثلاث مناطق نفوذ ومناطق رمادية أخرى تحت وطأة وجود خارجي تنخرط فيه عدة دول إقليمية وكبرى. يدلل كل ذلك على الاستعصاء في الوضع السوري وكل رهان على أي مستجدات مع وصول إدارة أميركية جديدة يرتبط بحسابات معقدة ضمن اللعبة الكبرى الإقليمية – الدولية التي انطلقت من سوريا في 2011 ولا تزال تلقي بثقلها
أما الآفاق الإيجابية أو السلبية فستحسمها خلاصة تصفيات الحروب السورية والوصول إلى التوازنات الإقليمية الجديدة. ومما لا شك فيه أن الوزنين الروسي والأميركي كما الصراع الإسرائيلي – الإيراني والدور التركي ستكون عوامل تقريرية في مستقبل الوضع السوري.
من الناحية الميدانية في بدايات 2021، تنقسم سوريا التي تبلغ مساحتها 185 ألف كلم مربع، إلى ثلاث مناطق نفوذ: الأولى تمتد على 63 في المئة من أراضي البلاد، وتسيطر عليها قوات الحكومة بدعم روسي وإيراني. والثانية تشمل 26 في المئة من مساحة البلاد في الشمال الشرقي، وتسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية – العربية، بدعم من التحالف الدولي، فيما تقع المنطقة الثالثة الواقعة في شمال البلاد وشمالها الغربي (11 في المئة) تحت نفوذ فصائل مقاتلة يدعمها الجيش التركي، مع الإشارة إلى استمرار وجود ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أنحاء من البادية السورية. وحسب مركز جسور للدراسات (تقرير 5 يناير 2021) يبلغ مجموع قواعد ومواقع القوات الأجنبية 477 موقعاً تتوزع بين التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتّحدة (33 موقعا)، وروسيا (83)، وتركيا (114)، وإيران (113)، وحزب الله (116).
وبالإضافة إلى خارطة الفاعلين على الأرض، نشير إلى استمرار التدخل الإسرائيلي الذي يستهدف منذ 2015 الوجود الإيراني ووجود حزب الله. وتعكس الأرقام والوقائع أعلاه أكبر تواجد للقوى الأجنبية في تاريخ سوريا الحديث، ما يعكس حجم التأثير الخارجي في الملف السوري على حساب تأثير الفاعلين السوريين جميعاً، ويؤكد التهافت الخارجي على الموقع المركزي لسوريا كقوة وسط (جغرافياً) في المخاض الذي سيغير وجه الإقليم ويعيد تركيبه.
للوهلة الأولى تبدو روسيا وكأنها خرجت منتصرة من المعمعة السورية بعد أكثر من خمس سنوات على تدخلها المكثف، وذلك بفضل استخدام متناسب للوسائل وإدارة تقاطعات مع الشريك الإيراني، وكذلك تركيا وإسرائيل تحت العين الساهرة (أو القبول الضمني) للولايات المتحدة. لكن مساعيها لتحويل إنجازها العسكري إلى إنجاز سياسي تبقى معلقةً بالتوافق مع واشنطن التي تضع مسألة وجودها شرق الفرات وإطلاق عملية إعادة الإعمار بمثابة عناصر ضغط لتطبيق القرار الأممي 2254 حول العملية السياسية.
ومن هنا ترنو الأنظار إلى سلوك الإدارة الأميركية الآتية بعد الفشل السياسي والأخلاقي لإدارة أوباما والإرث المتباين لإدارة ترامب. وفي تصريح حديث، غمز الوزير مايك بومبيو من قناة “الخطوط الحمراء” الوهمية وتباهى أنه جرى استبدال ذلك بعمل حقيقي عبر معاقبة الأسد لاستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، واعتماد قانون قيصر ضد مرتكبي الفظائع، وإرسال المساعدات الإنسانية للشعب السوري، وفضح الدور الإيراني الخبيث ومتابعة سحق داعش.
أما السفير جيمس جيفري الذي أدار طويلاً الملف السوري، فقد ترك توصيات لإدارة بايدن من أجل تأمين استمرارية الدور الأميركي، وليس من أجل مقارعة الدور الروسي مع التركيز على استمرار دعم “قسد” من دون الصدام مع تركيا، وذلك بالتزامن مع استمرار العمل لمنع عودة تنظيم داعش وضرب الوجود الإيراني بالتعاون مع إسرائيل. أما بالنسبة إلى مصير منظومة الأسد، قال المبعوث الأميركي إلى سوريا جويل رايبرن إن “النظام يضعف بوتيرة سريعة، ولا يمكن له الاستمرار، ولا يجب أن يتفاجأ الناس إذا بدأ الانهيار بسرعة”. واعتبر أن “النظام السوري بدأ يتعامل مع ابن بشار الأسد (حافظ) على أنه وليّ للعهد، كما تحولت زوجته أسماء من رمز للموضة إلى ما يشبه زعيمة المافيا هي وعائلتها، وبدأوا في الاستيلاء على أصول لأشخاص آخرين موجودين في سوريا”.
ويؤشر ذلك إلى أن شرعية المنظومة الأسدية في حال تمرير انتخابات العام 2021، ستبقى شرعية منقوصة وقيد الدرس لأنها خاضعة للنفوذ الروسي، ولأن المنظومة تبدو وكأنها التوأم السيامي للنظام الإيراني. وإذا طالعنا آراء ويليام بارنز الذي عيّنه جو بايدن على رأس “وكالة المخابرات المركزية الأميركية”، وأنتوني بلينكن المرشح لمنصب وزير الخارجية، لن تتكرر أخطاء إدارة أوباما وستتم الاستفادة من بعض حصاد إدارة ترامب لتركيب وضع جديد في سوريا. لكن أي تسوية مع روسيا تتطلب مناخا دولياً أفضل وأخذ العوامل الإقليمية بعين الاعتبار.
وتتوافق واشنطن وموسكو بشكل غير مباشر على استمرارية الوجود العسكري التركي ولقوات “قسد” بانتظار الحل السياسي في دمشق. وكان لافتا في هذا الصدد تركيز وزير الخارجية السعودي في موسكو على أهمية إنهاء التدخل الإيراني في سوريا من دون أن يتطرق لأدوار أطراف أخرى. هكذا تبدو المشكلة وكأنها تتركز على الوجود الإيراني.
وأخيراً حدد المستشار العسكري للمرشد الإيراني اللواء يحي رحيم صفوي أن “قائد فيلق القدس قاسم سليماني أسّس 22 لواءً للحشد الشعبي في العراق و60 ‘لواءً شعبياً’ في سوريا”. وأوضح أن الميليشيات الستّين التي أسّسها سليماني في سوريا تضم سبعين ألف مقاتل من قوات ما تعرف بـ”التعبئة الشعبية السورية” والمقاتلين الأجانب. يمثل ذلك دليلاً على أن الوجود الإيراني في سوريا لا يقتصر على المستشارين حسب الرواية الإيرانية السابقة، بل يشمل تأسيس ميليشيات يقع ضمن تغيير الهوية السورية في العمق والسعي إلى تغيير جوهر الكيان السوري كما فعلت إيران بالنسبة إلى تأسيسها “حزب الله” في لبنان.
وهذا يعني بالنسبة إلى الكثير من المراقبين أنه يمنع إعادة سوريا إلى الفلك العربي في المدى المنظور، وهذا الواقع لن يلائم المصالح الروسية على مدى متوسط، ويمكن أن يحصل تقاطع أكبر بين واشنطن وموسكو من خلال القناة الإسرائيلية كما يحصل عملياً في عمليات القصف الإسرائيلي.
كل ذلك يضع على المحك إدارة بايدن على ضوء الاحتمالات المرتقبة لمفاوضات متجددة حول الملف النووي الإيراني ومجمل العلاقة المستقبلية ضمن الرباعي الأميركي – الروسي – الإيراني – الإسرائيلي. وهذه المماحكة السياسية واستمرار الضغط الاقتصادي لا يلغيان احتمالات مواجهة إسرائيلية – إيرانية انطلاقا من الجنوب السوري. وفي مطلق الأحوال، ستبقى سوريا مسرحاً لحروب الآخرين حتى إشعار آخر، إذا لم تبرز مفاجأة من الداخل السوري تخلط كل أوراق المتربصين والمتقاطعين وتعيد الأمل للسوريين.