يتجنب الأقوياء أيّ إشارة الى قضية ارسال النظام السوري المتفجرات في رعاية ميشال سماحة وفي سيارته لرزع الفتنة في لبنان، كذلك يتجنبون التطرق الى جريمة تفجير مسجدي “التقوى” و”السلام” في طرابلس، وهم يسوِّقون لضرورة إعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا، متجاوزين كل التاريخ القريب وكل الحاضر الدامي، مع سعي حثيث لتوطيد التحالف مع النظام الاسدي، مستندين الى ان سبب العداء المسعور، الذي كانوا له رأس حربة، قد زال مع انسحاب الجيش السوري بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
فالجريمتان الموصوفتان، تمّ التخطيط لهما وتنفيذهما بعد هذا الانسحاب. وقد ضُبط النظام الاسدي مرتكباً بالجرم المشهود. على رغم ذلك، يبدو ان هاتين الجريمتين لا تعرقلان الطموح الذي تثمر نتائجه تباعاً، في ضوء الانخراط في محور هذا النظام والتكاتف لمتابعة المسيرة.
الأقوياء على حق. والمناقشة محرَّمة. كل من يجادل متآمر وعميل. فهم خائفون على الاقتصاد اللبناني، ومتخوفون من عودة “الإرهاب” وبقاء اللاجئين السوريين، لذا يسعون الى التطبيع مع النظام الاسدي. الامر لا يفهمه الى الغيارى على المصلحة العليا.
يبقى الالتباس حيال هذا الود المستجدّ، الذي لا يمنع هؤلاء الاقوياء من استخدام تعبير “الاحتلال السوري” لدى حاجتهم الى المزايدة والمبالغة في اظهار نضالهم ومقاومتهم. لكنهم في الوقت ذاته يبررون التعاون مع هذا “الاحتلال السوري”، بحجج يدحضها أداؤهم المتردي في السلطة، الذي يقود البلد بمؤسساته واداراته ومرافقه الى الجحيم.
فالطالع من احتلال، يحتاج إلى فترة تعافٍ تسبق السماح، وليست مفهومةً قدرته على الارتماء في أحضان المحتل بعد أشهر من زوال الاحتلال، وفق خطة ورؤية متكاملة، ما يوحي ان الترتيب لها كان سابقاً لكل ما جرى منذ اغتيال الرئيس الحريري، والتفاهمات مع أذرع المحور الأساسي المسيِّر للنظام، هي الحصيلة وليست الانطلاقة.
المخيف في المسألة ليس عناوينها. فهي لا تقتصر على استنكار التحالف مع “الاحتلال السوري”، لتتجاوزه الى غياب أي منظمة أخلاقية تحدد قواعد الاشتباك مع هؤلاء الأقوياء وتتحكم في التعامل معهم وفقاً لقواعدهم في التحالف او التخاصم. المخيف هو الغاء الحدود المسموح بها لتحقيق الأهداف ولإشباع الجوع العتيق الى السيطرة على كل شيء.
نحن لا نتكلم عن البراميل المتفجرة التي يرميها النظام على مدن وقرى ليمسحها ويغيّر ديموغرافيتها. ونحن لا نتطرق الى المجازر التي حصلت والتي يمكن ان تظلّ تحصل. ونحن نتجنب هذا النقاش حتى لا يؤلمنا الجواب شبه الموحّد بأن موت بضعة مئات من مئات الآلاف من الارهابيين هو خدمة للمنطقة والتوازنات. ليس مهماً إن كان الأطفال والنساء من ضمن من يبيدهم النظام. المهم ان ينأى لبنان بنفسه عما يجري في سوريا عندما يتعلق الامر بالجرائم الاسدية، وان يشكر لبنان “حزب الله” لأنه حماه من الإرهابيين عبر مشاركته في عمليات الإبادة الجماعية لفئات من الشعب السوري صدف انها من مذهب يهدّد الوجود المسيحي. والله لا يردّهم.
المخيف هو كمية اللعب والتلاعب والتذاكي لضرب أسس المبادئ التي تبيح للمسامِح نسيان ضباط الجيش اللبناني وافراده الذين فقدوا في 13 تشرين الاول 1990 وجثث الشهداء العسكريين والضباط في مدفن ملعب وزارة الدفاع.
هذا من دون إغفال رفض النظام الاسدي الاعتراف بأيٍّ من جرائمه في لبنان، ما يجعل المسامحة والتطبيع من طرف واحد، فيما الطرف الآخر مصرٌّ على احتقار الصيغة اللبنانية بكل ما فيها ومن فيها، وكلّ همه، على رغم اهتزازه وضعفه وتحوّله إلى أداة يتقاذفها الروس والإيرانيون، الاّ يسمح بقيام دولة ومؤسسات عندنا.
مع هذا، يصرّ الأقوياء على الترويج بأن الإرهاب الذي دمّر حلم قيام الدولة اللبنانية على يد النظام الاسدي، يدخل في خانة “عفا الله عما مضى”. اما “مكافحة الإرهاب” الآخر، الذي يمكن استخدامه في التجييش للعنصرية والتقوقع المذهبي، فقد بيّنت التجارب ان المحور الممانع هو وحده القادر على التصدي له. لذا لا بد من الانخراط في هذا المحور.
كأن حمل ميشال سماحة المتفجرات في سيارته ليس ارهاباً!
كأنها مجرد جنحة لا تستوجب حتى الاستنكار، اقدام ضابطين في المخابرات الاسدية بالتخطيط لتفجير المسجدَين والاشراف على عملية التفجير، تطبيقاً لقرار صدر عن منظومة أمنية رفيعة المستوى والموقع في المخابرات السورية، كما يفيد القرار الاتهامي المتعلق بالقضية!
لا يضير الأقوياء ان سائر المتهمين بهذه القضية، الذين لم يتم القبض عليهم من أفراد الخلية اللبنانية التي كانت تنفذ القرار الصادر عن المنظومة الأمنية الرفيعة، قد فروا الى “سوريا الاسد”.
“سوريا الأسد” ذاتها، التي تملك السلطات اللبنانية توثيقاً لوجود 627 معتقلاً لبنانياً في سجون نظامها، ولا أحد يسأل عنهم او يثير قضيتهم التي لم تعد تعتبر انتقاصاً للسيادة اللبنانية.
كل شيء على ما يبدو، خاضع للتأويل والاجتهاد والبراعة في لعبة التذاكي التي يبرع فيها الاقوياء. فما هو إرهاب وفق مقاييس المحور الإيراني هو ما توجب ادانته والتنديد به، اما ما يرتكبه “الاحتلال السوري” ومن لفّ لفّه، فلا لزوم حتى لإثارته تجنباً لتهديد السلم الأهلي ورأفة بالاقتصاد المهدد بالانهيار.
المطلوب اليوم التطبيع مع “الاحتلال السوري” الذي صار حليفاً.
sanaa.aljack@gmail.com
“النهار”