(نشر “الشفاف” هذا المقال المهم في
استفاق اللبنانيون في ١٨ تشرين الأول/أكتوبر الجاري على حركة احتجاجات مطلبية أقفلت معظم طرقات لبنان، وساحاته العامة، وكانت شرارتها المعلنة ما تسرب عن نية الحكومة ممثلة بوزير الاتصالات محمد شقير فرض ضريبة على خدمة الاتصال بتقنية “الواتس اب”، بمعدل 6 دولارات شهريا!
وكانت تلك الضريبة واحدة من سلسلة ضرائب كانت الحكومة تسعى لاقرارها في سياق خطتها لاقرار موازنة العام المقبل. وهذا عدا ضريبة على صفيحة البنزين، ورفع الضريبة على القيمة المضافة من 11 الى 15 بالمئة، ووزيادة الضريبة على استيراد الكماليات بمعدل 3 بالمئة، وسواها من الضرائب المباشرة وغير المباشرة.
كانت الشرارة ما تسرب عن ضريبة على اتصالات “الواتس اب” المدفوعة اصلا من ضمن سلة الخدمات التي تقدمها شركات الانترنيت.
إلا أن الشرارة الفعلية بعيدة كل البعد عن ضريبة “الواتس أب”.
ولفهم ما حصل، لا بد من متابعة سير الاحداث في لبنان وصولا الى ١٧ تشرين الأول/أكتوبر الجاري.
في الثالث عشر من تشرين اطلق رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل سلسلة مواقف تصعيدية بمناسبة “ذكرى 13 تشرين” أعقبت اجتماعه بامين عام حزب الله حسن نصرالله لـ٧ ساعات. وفجأة، وبدون مقدّمات أو مبرّر، هدد باسيل رئيسَ “الحزب الاشتراكي” وليد جنبلاط، ومثله “القوات اللبنانية”. وقال إن تياره هو السيل الجارف الذي سيجرف الجميع من دون استثناء، كما هدد بـ“قلب الطاولة” على الجميع، وهذا ما أثار استغراب اللبنانيين، خصوصا ان باسيل يرأس اكبر كتلة نيابية من 29 نائبا، واكبر كتلة وزارية من 11 وزيرا ورئيس الجمهرية هو حميّه وكان رئيس التيار الذي خلفه باسيل في رئاسته. كما انه متحالف عضويا مع اكبر ميليشا لبنانية واقليمية أي مع “حزب الله”، ومتحالف، أيضاً، مع رئيس الحكومة سعد الحريري!
فعلى من سيقلب الطاولة اذا؟
لقاء باسيل نصرالله أعقبه لقاء آخر مع الوزير والنائب السابق سليمان فرنجيه مع نصرلله ودام ست ساعات.
ولان اللقائين حصلا بعيداً عن الاعلام، فما قيل في العلن هو ان نصرالله بحث مع الحلفاء في قوى 8 آذار سبلَ الخروج من الازمة الاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد، وكيفية المعالجة والخروج منها.
ولكن ما رشح ايضا هو ان نصرالله بحث مع الحلفاء كيفية وضع لبنان بكامله في دائرة السيطرة الايرانية، خصوصا نظامه المصرفي الذي يستجيب للقرارات الدولية عموما والاميركية خصوصا في ما يتعلق بمكافحة الارهاب وتبييض الاموال وتجفيف مصادر تمويل حزب الله. وهذا، وصولاً الى العمل على تنصيب باسيل رئيسا للجمهورية خلفا لعمه الجنرال الهرم ميشال عون، من خلال سيناريو استقالة الرئيس لاسباب صحية، ليجري بعدها انتخاب باسيل رئيسا، لست سنوات، يعمل خلالها على تصفية علاقة لبنان بالمجتمع الدولي، ويضع البلاد في “محور الممانعة” بالكامل.
أي أن الرئيس عون، وصهره جبران باسيل، وافقا على “سيناريو” يسمح لحزب الله بإقالة حاكم البنك المركزي رياض سلامه (أو اعتقاله، أو تهجيره) ووضع يد الحزب على مصارف لبنان، الأمر الذي سيحوّل لبنان، خلال أشهر، إلى ما يشبه “قطاع غزة”!
المعلومات تشير الى ان ترئيس باسيل، اصطدم برفض كل من رئيس المجلس النيابي نبيه بري (الذي اتّهم حزب الله بإحراق صوره ويافطاته في مدينة “صور” وغيرها)، ورئيس “الحزب الاشتراكي” وليد جنبلاط، وحزب “القوات اللبنانية” و“تيار المردة” برئاسة سليمان فرنجيه، وعدد من النواب المستقلين. في حين ان موقف كتلة المستقبل التي يرأسها سعد الحريري كان رماديا، حيث لم يعلن الحريري موافقته او رفضه تولي باسيل رئاسة الجمهورية.
وتشير مصادر سياسية الى ان هجوم باسيل ورفع صوته في ١٣ تشرين/أكتوبر كان المقصود منه تهديد جنبلاط وجعجع، وتحييد الرئيس نبيه بري، باعتبار ان حسن نصرالله يستطيع ترويض الاخير. كما عمل باسيل على التلويح بفتح ملفات الفساد وهدر المال العام وسرقته بوجه رئيس الحكومة سعد الحريري لضمان موافقته!
ليل الخميس في ١٧ تشرين الأول/أكتوبر الجاري، بدأت حركة احتجاجات، سميت “إنتفاضة الواتس أب“، احتجاجا على وضع ضريبة على الاتصال بالواتس اب، وذلك في تظاهرة توجهت الى المصرف المركزي في بيروت، وقالت مصادر أن عناصر من “الحزب الشيوعي- لصاحبه حزب الله” شاركت فيها. في حين شهدت ما يسمى “المناطق المسيحية” تجمعات لمحتجين عملوا على قطع الطرقات في “جل الديب” و”الزلقا”.
الاحتجاجات التي انطلقت تحت ستار رفض الضرائب كانت منسقة بين التيار العوني وحزب الله حيث توجه انصار الحزب الالهي الى البنك المركزي، في حين نزل انصار التيار العوني الى الطرقات رفضا للضرائب. علما ان ما يسمى “المناطق المسيحية” تخضع بالكامل لرقابة امنية مشددة، ولا يسمح فيها بقطع طريق ما لم تكن القوى الامنية متواطئة ضمنيا مع المحتجين! خصوصا ان القوى التي تستطيع تحريك الشارع المسيحي وصولا الى قطع الطرقات تتمثل في قوتين رئيسيتين هما “التيار العوني” و”القوات اللبنانية”.
وتشير المصادر الى ان “القوات” لم تكن في وارد اي حركة اعتراض شعبية وهي اكتفت قبل استقالة وزرائها من الحكومة بتسجيل المواقف ضمن مجلس الوزراء! فكانت خطة باسيل- نصرالله تحريك الشارع في وجه الحكومة! فيتولى انصار عون، من دون الاعلان عن هويتهم السياسية (إذ، كيف يتظاهر “عونيون” في وجه رئيس خرج من صفوفهم؟) التنديد بالضرائب ورفع السقف وصولا الى التهديد بفتح ملفات الفساد واهدار المال العام في وجه رئيس الحكومة سعد الحريري، لتطويعه وانتزاع موافقته على تولي باسيل رئاسة الجمهورية، بما يضمن فوز الاخير. في حين يتولى انصار نصرالله التصويب على مصرف لبنان المركزي، لاقالة الحاكم وتعيين بديل عنه يقف في وجه العقوبات الاميركية على كل من يتعامل مع حزب الله.
ولكن، ما حصل فعلا هو ان بداية الاحتجاجات أخرجتها عن غايتها الاصلية.
فنزل اللبنانيون (الذين لم يكونوا على علم بمخطط نصرالله-باسيل الإنقلابي، والذين لم ينتبهوا إلى “هوية” الداعين للمظاهرة الأولى) الى الشوارع في حركة عفوية غير منسقة، للتنديد بقرارات الحكومة، وبدأوا باطلاق الشعارات والهتافات المنددة بالحكومة وبالعهد وبصهر الرئيس جبران باسيل، الذي ما انفك المحتجون يشتمونه منذ ١١ يوماً، ويحملونه مسؤولية الانهيار على كل الصُعُد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب جشعه واستهتاره بمن هم ليسوا ضمن تياره وموالين له.
إزاء العفوية التي رافقت بداية الاحتجاجات وخروج اللبنانيين الى الشوارع بعد ان ضاقوا ذرعا باخفاقات الحكومة وعجزها عن اقرار الموازنة بعد ان تراجع باسيل وتياره عن الموافقة على البنود الاصلاحية في الموازنة واعاد البحث في إقرارها الى نقطة البداية مصرا على تحييد الوزارات التي تواليه عن اي بنود اصلاحية، خرج انصار التيار العوني من الشارع وبقي المحتجون الموجوعون من سياسات الحكومة، ثم كبرت كرة ثلج المحتجين من بيروت الى المناطق اللبنانية كافة.
وانتشر المحتجون على الطرقات كالنار في الهشيم من دون ان يكون لهم قيادة مركزية تقرر عنهم، ولا مكان اعتراض مركزي يحتجون فيه! فلكل مدينة وقرية وبلدة محتجوها الذين نسوا ضريبة “الواتس اب” وانتقلوا الى المطالبة باستقالة الحكومة وتعيين حكومة اختصاصيين من دون سياسيين تعمل على اصلاح الاوضاع الاقتصادية في البلاد.
هل يتراجع نصرالله وباسيل عن “غزوة المصارف والبنك المركزي”؟ ليس مؤكدا!!
**
للمقارنة: المظاهرات التي نظّمها “الأصوليون” في “مشهد” الإيرانية
في ديسمبر ٢٠١٧ تحوّلت إلى “انتفاضة” كادت تطيح بنظام الملات
في ديسمبر ٢٠١٧ انطلقت من مدينة « مشهد » الإيرانية، وهي مسقط رأس خامنئي، مظاهرات ضد الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية الصعبة. وكان الداعي لها هو « ابراهيم رئيسي » المرشح الفاشل لانتخابات الرئاسة ضد روحاني (هو حالياً رئيس السلطة القضائية في إيران). وكانت العملية مدبّرة من الجناح الأصولي بهدف الإطاحة بالرئيس روحاني. ولكن المظاهرات امتدت من « مشهد » إلى طهران ومدن أخرى، وعلى مدى بضعة أسابيع، وكادت تطيح بالنظام كله. والواقع أن “مشروع الإطاحة بروحاني” بواسطة مظاهرات شعبية كان معروفاً منذ شهر يونيو ٢٠١٧ على الأٌقل. ولكن “دخول الجماهير على الخط” أشعل الوضع في إيران، وردّد الإيرانيون شعارات مناوئة للمحافظين المتحالفين مع الحرس الثوري، من نوع “لا غزة ولا لبنان”.
ويبدو أن ما يحدث في لبنان الآن يشبه ما حدث في إيران ابتداء من ديسمبر ٢٠١٧.
يا سيد حسن نصر الله, كل الشرفاء معك على المره والحلوه معك .. كلنا يعني كلنا معك…