لم تكن حصيلة الحقبة الإيرانية باهرة على الصعيدين الداخلي والخارجي: يتأكد على مر السنين الفشل في إنشاء بنية دولة جديدة ذات مؤسسات حاكمة تحظى بالكفاءة.
مع اقتراب الذكرى الأربعين للثورة الخمينية، في فبراير 2019، ومع الآثار الملموسة لسلاح العقوبات الأميركية منذ مايو 2018، وبالإضافة إلى الاحتجاجات الداخلية الواسعة منذ ديسمبر 2017، تزداد التساؤلات حول إمكانية دخول إيران في هذا العام فصلا جديدا من تاريخها السياسي إن كان ذلك لناحية إنهاء هيمنة منطق الثورة على الدولة في الداخل، أو لجهة بدء العد العكسي لنهاية “الحقبة الإيرانية في الشرق الأوسط”.
وتبقى الأجوبة غير حاسمة نظرا إلى ضبابية نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتحول العالم إلى ما يشبه الغابة وسط الحروب التجارية واستسهال ضم الأراضي بالقوة أو استرجاع حقوق مفترضة مثلما حصل مع روسيا في القرم وكما تهدد الصين تايوان وكما تطمح الإمبراطوريات المستيقظة في الشرق الأوسط من تركيا إلى إيران.
اللافت للنظر في مقاربة تطور إيران في العقود الأربعة الأخيرة التناقض الصارخ بين الفشل في بناء دولة قومية طبيعية تؤمن مصالح شعوبها ودورها الإقليمي الإيجابي، وبين النجاحات في التوسع الخارجي ليس فقط بسبب الإمكانات المرصودة والغطاء الأيديولوجي والديني فحسب، بل بسبب الاستفادة من “هدايا” إسقاط واشنطن لأعداء إيران اللدودين في كابول وبغداد، ومن استخدام طهران ودورها إن في العراق ما بعد صدام حسين أو في الحرب ضد الإرهاب والفتنة السنية – الشيعية.
هكذا بعد فشل في زخم تصدير الثورة خلال الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) إبان وجود الخميني، نجحت طهران في مرحلة ما بعد 2003 في تدشين تمددها الإقليمي وبدء “الحقبة الإيرانية” خاصة بعد نهاية ولايتي رئاسة محمد خاتمي (1997-2005) وبدء عهد محمود أحمدي نجاد (2005-2013) وكل ذلك تحت العين الساهرة للمرشد علي خامنئي بمساعدة الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني الذي توفي أوائل 2017 في ظروف غامضة.
وبالفعل استفادت طهران مليا من خيارات إدارة باراك أوباما (تحت غطاء الصفقة النووية التاريخية) في تدعيم الصعود الإيراني من ضفاف الخليج والبحر الأحمر حتى ضفاف البحر المتوسط، وذلك في موازاة الرهان الأوبامي على شراكة مع طهران من دون أخذ تحالفات واشنطن العربية بعين الاعتبار.
لكن مراقبة مسارات التاريخ المتعرجة في الشرق الأوسط تبين لنا أن صعود الأدوار الإقليمية وهبوطها ينتجان في الأساس عن توازنات إقليمية أو دولية ويعبران عن مراحل بعينها. في ظل إمكانية التقلبات السياسية والاقتصادية ووزنهما في تغيير وجه التاريخ المتحرك، يبقى للجغرافيا كل وزنها في تقرير السياسات وهي إلى جانب الاقتصاد من يحرك الطموحات والحروب.
إن تأثير صعود قوى إقليمية على شكل المنطقة خلال فترات تاريخية مختلفة ترك بصماته على ذاكرة الشرق الأوسط وهذا يوضح نسبيا ما تمارسه إيران بالضبط في الإقليم خلال العقود الماضية.
لقد كانت المشكلة عند الدول الرئيسية والأساسية أنها تربط “الأدوار الإقليمية” بتصور تغيير الأوضاع بشكل حاسم لصالحها أو تغليب الهيمنة من دون الدفع نحو اتجاهات تعاون أو اندماج إقليمي أو تقديم نماذج إصلاحية (كما حصل في أماكن أخرى من العالم) والأدهى أن الوسائل والأساليب المستخدمة كانت تدفع بالوضع إلى ما هو أسوأ ممـا كان قائما بالفعل.
لقد كانت سنوات الخمسينات والستينات تمثل الحـقبة المصرية، وصعود المد القومي العربي، وانفجار الحروب النظامية (والخاسرة غالبا) مع إسرائيل، وسياسات المواجهة مع الغرب في محاكاة غير مدروسة لزمن الحرب الباردة. وبعد حرب أكتوبر 1973، بدأت “الحقبة السعودية” مع صعود تأثير العامل النفطي على العلاقات الإقليمية وبدايات انتشار البدائل الإسلامية في الشرق الأوسط إثر هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في صيف 1982 ودخول المنطقة حالة ركود في الثمانينات، مع تأثيرات إسرائيلية بعد اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. وبعد ومضة زمن لحقبة عراقية بين 1988 و1990، دخلت المنطقة “عصر الهيمنة الأميركية الأحادية”.
لكن سقوط “النظام العربي الإقليمي”، والفراغ الاستراتيجي بعد سقوط العراق أديا إلى تصعيد قوى إقليمية كبرى ثلاث وهي تركيا وإسرائيل وإيران. مما لا شك فيه أن طهران أصبحت الأكثر استفادة من هذا التحول بفضل “التفهم الأميركي” منذ أيام التعاون في العراق (حوار بول بريمر – قاسم سليماني بدأ في 2004) والحماس الأوبامي بين 2013 و2017.
لم تكن حصيلة “الحقبة الإيرانية” باهرة على الصعيدين الداخلي والخارجي: يتأكد على مر السنين الفشل في إنشاء بنية دولة جديدة ذات مؤسسات حاكمة تحظى بالفعالية والكفاءة. ويتساءل المراقب كيف أن الجهاز الديني المسيطر وذراعه في الحرس الثوري نجحا في القبض على دولة عمرها خمسة قرون من خلال تركيب أجهزة حكم موازية تحت عناوين ثورية وإسلامية.
من الواضح أن أهداف “الدولة الموازية” (دولة الثورة) وأساليبها ومصالحها تجعلها على خلاف مستمر مع الهيكل الرسمي العتيق الذي أخذ يتلاشى. وتأتي المفارقة الكبرى إزاء مطالب الناس في أن أولئك الذين يملكون ظاهريا السلطات والصلاحيات (الرئاسة والحكومة) لا يمتلكون ناصية القرار، في حين أن الذين يتحملون المسؤولية الفعلية من محيط المرشد أو تحت عباءته يحكمون فعلا ولا تطالهم المحاسبة والمساءلة.
من هنا أتت مؤخرا استقالة وزير الصحة، قاضي هاشمي اعتراضا على خفض ميزانية الوزارة، في وقت تتجه فيه البلاد إلى التقشف لمواجهة الأوضاع الاقتصادية المتردية. وسبق أن أعلنت إيران عن ميزانية العام المالي الذي سيبدأ في 21 مارس القادم، بقيمة إجمالية قدرها 47.5 مليار دولار، والتي تقل عن 50 بالمئة من موازنة العام الماضي، التي بلغت 104 مليارات دولار.
وتأتي الموازنة الإيرانية للعام الجديد وسط مصاعب بسبب العقوبات الأميركية، حيث خسر الريال أكثر من 60 بالمئة من قيمته أمام الدولار، بسبب العقوبات التي طالت العديد من القطاعات أبرزها البنوك، والتحويلات الدولارية، وقطاع النفط. وتتوقع طهران تمويل 35 بالمئة من الموازنة من عائدات النفط، بناء على سعر متوقع للنفط بين 50-54 دولارا للبرميل، وصادرات من مليون إلى 1.5 مليون برميل يوميا.
ويتوقع تزايد المصاعب مع انسحاب الصين من مشروع باريس الضخم للغاز وانسحاب مجموعة روسنفت الروسية من إيران وفشل الاتحاد الأوروبي في اعتماد آلية بديلة للالتفاف على عقوبات واشنطن.
ومن أبرز أسباب التأزم سيطرة الحرس الثوري المتزايدة على القطاعات الاقتصادية والميزانيات العسكرية الباهظة في موازاة انهيار البيئة وتدمير موارد المياه وبالفعل تم إنفاق المليارات من الدولارات على البرنامج النووي والبرامج العسكرية والتوسع الخارجي من اليمن وغزة إلى العراق وسوريا ولبنان وغيرها بدل الاستثمار في التنمية والبنية التحتية لصالح الشعوب الإيرانية.
على الصعيد الخارجي ورغم نجاحات المشروع الإمبراطوري من جبال اليمن إلى سوريا وجنوب لبنان، تمّ إلاجهاز على توازنات وتدمير دول وتقويض بنياتها وضرب العلاقات التاريخية بين شعوب المنطقة.
حصل ذلك لأن نظام ولاية الفقيه له برنامجه الأيديولوجي المفصول عن مصالح الدولة الإيرانية بحد ذاتها وهدفه الأساسي قيادة العالم الإسلامي وتصور نفسه قوة كبرى يصعب قهرها مع اتخاذ شعارات العداء لأميركا وإسرائيل غطاء لتمرير أجندته وتركيب محوره الإقليمي واللعب على حالة التخبط الدولي بين واشنطن وبكين وموسكو والأوروبيين مع الاستفادة من عمق عراقي وتفاهم مع أردوغان وباكستان لتسهيل تجاوز العقوبات.
لكن لعبة النظام في إيران أصبحت مكشوفة ورقصة على حافة الهاوية. على مدار الأشهر الماضية، شهدت إيران حالات احتجاج شعبية طالت جميع نواحي المجتمع والحياة وحشدت الاحتجاجات العارمة الكبيرة على الصعيد الوطني الملايين من المواطنين المتظاهرين في طول البلاد وعرضها. ومن الواضح أن مطالب المواطنين الإيرانيين تتمثل في استعادة دولتهم القومية التاريخية وإغلاق صفحة “نظام ولاية الفقيه” التي ربما شكل رحيل آية الله شاهرودي إشارة إلى عدم القدرة على تجديدها في مرحلة أشبه بمرحلة “ريف المرشد” قبل ولوج زمن أفول “الحقبة الإيرانية” داخليا وخارجيا.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب