الآن صارت إيران نفسها تتباهى بفارسيتها وتريد استعادة أمجاد إمبرطوريتها لغسل رجليها بمياه بحرنا المتوسطي. وطمأننا السيد أن كل ما للحزب وعليه يأتي من إيران. وأصبحت العمالة على كل شفة ولسان. الجديد اكتراث حزب الله لما كان مجرد ترهات.
ما الذي يحدوني للتذكير بذلك؟
عندما كنت أدرّس في الجامعة ، كنت أشرح لطلابي أن « النوبة » التي تصيب مريض الصرع هي تفريغ عصبي يسببه مثير. وهذا المثير يتسبب بالنوبة إما لأنه قوي جداً وتعجز عن صدّه الخلايا الدفاعية وإما لأن دفاعاتها أصلاً ضعيفة جداً فتحصل « الكريزة ». وهذا نموذج ما حصل لنا مع حزب الله وإيران.
حزب الله أخفى وجوده في البداية، وبعد ذلك نفى تبعيته او تمويله من إيران ونفى أنه يريد أية مكاسب في لبنان. إنه “مقاومة” لوجهه تعالى. أما إيران فبعد أن تجرعت سم صدام حسين اتخذت قرارها بإبعاد الحروب عن أراضيها، فاتّبعت أساليب الإمبراطورية الفارسية البائدة: سياسات هجومية واستخدام الأدوات المحلية في حروبها المقدسة لتحفظ قواتها وأفراد جيشها.
المقصود أن ما وصلنا إليه، وهو ليس أزمة بل تدمير ممنهج مقصود، ليس سببه “قوة” إيران العظيمة ولا قوة حزب الله التي لا تغلب. وصلنا إلى هنا بسبب تهاوننا وتأخرنا باستشراف أبعاد الأحداث في الوقت المناسب؛ ولذا لم نستخدم أي دفاع مهما صغر شأنه، بل استسلمنا وأمديناهما من ضعفنا قوة؛ لمصالح خاصة أو لقِصر نظر.
فإيران التي تتلقى الضربات الموجعة في الداخل بصمت، وفي سوريا وعلى جميع الجبهات التي تحتلها، ستبتلع كبرياء “عرش الطاووس”، ولن ترد سوى بالمزايدات وبالتصعيد الكلامي والبهورات الصاروخية لأنها تعجز عن مواجهة أميركا ولا تحتمل حربا مع إسرائيل. ولهذا اجتمع البرلمان الإيراني ليؤخر موعد محو إسرائيل من “سبع دقائق ونصف” إلى 20 عاماً!!!
أما إذا تدهور الوضع فلديها الدفاعات الأولية التي غرستها في لبنان وفلسطين كي “تقضي على إسرائيل”، على ما نقلت « المنار « عن علي حاجي زاده: “إنّ غزة ولبنان تمثلان الخندق الأول للمعركة، وكلّ ما تراه بشأن القوة الصاروخية في غزة ولبنان تمّ بدعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية”. وأضاف: “نحن نعلّم جبهة المقاومة على صناعة صنارة الصيد، بدلاً من تقديم السمك، ولبنان وغزة يمتلكان تكنولوجيا صناعة الصواريخ”. وهذا ما يكذب نفي مسؤولينا بوجود مصانع صواريخ.
تجاه الحرب المشتعلة على وسائط التواصل، تعبيرا عن الرفض والاستنكار العارمين للمواطنين اللبنانيين لعنجهية حزب الله وتصريحات الإيرانيين التي وقّعت بالخط العريض على انتهاء صلاحية السيادة اللبنانية. انبرى السيد نصرالله، بمناسبة ذكرى مقتل سليماني، ليشن حرباً نفسية لقمع اللبنانيين وإضعافهم وتثبيط عزيمتهم عن مقاومة سيطرته على لبنان بالسلاح الإيراني. وفيما يخاطبهم قائلاً: “إنتم تخوضون معركة خائبة، فاشلة، لن تؤدي إلى أي نتيجة“، كان باستطاعته سماع الطائرات الإسرائيلية تحلق بكثافة، على علو منخفض، فوق مخبئه.
الآن صار حزب الله يلجأ إلى “المقاومة بالحيلة”، بحسب تعبير جايمس سكوت الشهير. فعندما يعجز، كما إيران، عن ردع الهجمات الإسرائيلية في سوريا، ويعجز مع طهران، عن الانتقام لمقتل سليماني، يعوّض بمعاقبة الشعب اللبناني الذي يعارض هيمنته. وعندما تتحول المقاومة إلى فولكلور فهذا يعني زوالها. ففولكلور توزيع الصور والنصب يعيده لزمن عبادة الأصنام، بعد أن كان يهدمها في مطلع الثمانينيات. يحوّل لبنان إلى صورة مصغرة عن « بروباغندا » الدول الشمولية السوفياتية.
فنشر صور سليماني في طول البلاد وعرضها، يتقصد منها إهانة الثوار خصوصاً بوضع صوره على قبضة الثورة وارزتها!!
لكن ما يغيب عن بال السيد نصرالله، أنه مع كل ظهور جديد، من خلف السياجات، ومع كل تهديد ووعيد واحتقار وتسخيف للبنانيين المعارضين لهيمنة إيران بفضله، سوف تزداد أعداد المعترضين والمقاومين بوجهه.
وهنا قد تفيد معرفة التاريخ للاتعاظ. فالضغينة والغضب التي تثيرها مواقفه وسياساته وخطبه ستكون محركاً من محركات التاريخ على ما يذهب إليه المؤرخ من مدرسة حوليات مارك فيرّو الذي سأل: هل يمكن لقوة المشاعر ان تفسر التاريخ؟ دون أن تكون عامل التفسير الوحيد بالطبع. ماذا لو أن الغضب بين المجموعات الإنسانية يشكل نابضاً مستتراً أو خفياً في التاريخ؟
جاءته الفكرة من خلال عمله على فترة الحرب العالمية الأولى، وكيف أثرت به كثيرا صورة الجندي العائد في إجازة إلى بيته فلا يجد أحداً بانتظاره على المحطة: “عبّرت نظرته عن الاضطراب في البداية، ثم الغضب، فالكراهية”.
وكان قد أشار في كتاب له إلى ضغينة جنود الجبهة ضد المدنيين الذين “عاشوا حياة ناعمة” فيما هم “يموتون” في الخنادق، فرسائلهم تشهد على وجود كراهية لمواطنيهم مماثلة لكرههم للعدو. وهذا ما يفسر بالنسبة له عودة روابط اليمين المتطرف في فرنسا. كذلك الأمر في الحرب العالمية الثانية، كانت مشاعر الغضب ضد فيشي أو ضد من هم مسؤولون مفترضون عن الهزيمة، أكبر من المشاعر المعادية للألمان. أما في المستعمرات السابقة في شمال أفريقيا فهو يرى أن العرب كانوا يخبئون شيئاً آخر خلف مطالبهم: ليس الاستقلال فقط هو ما يرغبونه، لكنهم كانوا يبحثون عن التعبير عن غضبهم ضد من أهانوهم باستعمارهم لهم. برز هذا أيضاً بعد أحداث 11 سبتمبر فلقد أعلن الإرهابيون عن “شعورهم بالإهانة” العائد إلى طردهم من إسبانيا منذ العام 1492..
شعر فيرّو هنا أنه التقط خيطاً مهما يجب حلحلته: معرفة دور الضغينة في تفسير بعض الحروب والثورات والمطالبات.
ولقد عبّر فوكوياما في مقابلة معه عن هذه الفكرة عندما سئل عن التفسير الذي أعطاه برنارد لويس لصعود الإسلاميين في العالم الإسلامي بالغضب الذي يعمّه، فوافق مفسراً “... كنت أشعر دائماً، بمعنى من المعاني، بأن الكثير من الغضب الذي يدخل في التأكيد العدواني على هوية المسلمين، إنما هو نوع من رد الفعل على فشل التحديث الأوسع في المنطقة، ومن ثم فشل النظام السياسي، لأن الناس لا يمتلكون مشاركة ذات معنى، ولا ديموقراطية، والكثير من الأشخاص لا يمتلكون الحرية الحقيقية في الكثير من جوانب حياتهم…. إذاً، بهذا المعنى أعتقد أن الأمر ربما يكون صحيحاً“.
بحسب أكسيل هونيث، الذي نظّر لمسألة الاعتراف، أن النزاعات الاجتماعية بحسب النموذج الكلاسيكي ينظر لها على أنها نزاعات مصلحية، على اعتبار أن للأفراد وللجماعات بعض المصالح المحدّدة سلفاً بحيث أن عدم إشباعها في ظروف معينة يجعل هؤلاء الأشخاص يناضلون من أجل اشباعها. لكن تبين له أن جزءاً من هذه الصراعات على الأقل يمكن فهمها بشكل أفضل إذا أدخلت عليها الانتظارات الأخلاقية أي عبر تفسيرها بواسطة مشاعر الشرف المُهان والاحتقار ورفض الاعتراف.
والسيد نصرالله الذي أخبرنا: “نحنا منشعر انو ما محاصرين نحن معنا الأرض والجبال والوديان والتراب والأنهار والبحار والمحيطات والسحاب والرياح والشمس والقمر والنجوم والسموات السبع والملايكة وما خلق مما نعلم ومما لا نعلم ونشعر أنكم انتم محاصرون، أميركا وعظمتها محاصرة اعداءنا كلهم محاصرين مش نحنا المحاصرين..“. في الوقت الذي يعجز فيه عن حماية مواقعه الإلكترونية المالية وربما الأمنية أيضاً. هذا استخفاف بعقول وذكاء اللبنانيين، وإذا كانت إسرائيل منهارة وتقف على رجل ونصف، فهو نجح بوضع لبنان على نصف رجل. وهذا ما يسميه نجاح باهر بوضع لبنان على الخارطة بفضل مقاومته!!
إذا كان وضع لبنان في طليعة البلدان المصنّعة والمصدّرة للمخدرات، والمعزول عن العالم والمفلس والفاشل والمنهار نجاح الحزب الباهر؟ فكيف يكون الفشل إذاً؟