(صورة المقال: أجبر الرئيس أيزنهاور بريطانيا وفرنسا وإٍسرائيل على الإنسحاب من مصر بعد « العدوان الثلاثي ». مكافأةً لأميركا.. انحاز عبد الناصر للإتحاد السوفياتي!)
لا تزعم هذه الأسطر أنها تملك إجابات قاطعة، كما أنها لا تنطوي على «أحكام قيم» مسبقة. ما تفعله فحسب أنها تتساءل، أو تدعو إلى التساؤل، فيما خصنا نحن العرب، وفيما خص عدالة العالم حيالنا، ومدى استعدادنا، أو مدى استعدادنا لأن ننضوي في هذا العالم.
فلنراجع بعض التواريخ الكبرى لـ«سوء فهم» عميق نشأ عنه «سوء تفاهم» أعمق لا نزال نتلمس آثاره.
بعد الحرب العالمية الأولى، اعترض العرب، شعوباً ونُخباً، على ما فعله المنتصرون في تلك الحرب من خلال «عصبة الأمم» التي أنشأوها. لقد قرروا فرض انتدابات على أجزاء سابقة من الإمبراطورية العثمانية وعلى مستعمرات ألمانية سابقة في أفريقيا. نحن بدورنا استقبلنا هذه الانتدابات بالانتفاضات، وراحت أفكارنا تؤكد على رفض «واقع التجزئة» وعلى «إعادة الأمور» إلى ما يُفترض أنها كانت عليه ذات مرة. أحزابنا راحت تتشكل على قاعدة هذا المبدأ. نجوم تاريخنا ما زالوا حتى اليوم أولئك الذين واجهوا تلك الانتدابات؛ ثورة العشرين في العراق، سلطان الأطرش، صالح العلي، يوسف العظمة… إلخ.
المنتصرون في الحرب كانوا يحتفلون بعالم ما بعد الإمبراطوريات، ونحن كنا نتألم داعين إلى مواجهة انتصارهم الذي لم نرَ فيه إلا أنه استعمار لنا. أغرب ما كان يحصل أن حكام دولنا الجديدة بدوا، هم أيضاً، محرجين بالدول التي يحكمونها. كثيرون منهم اعتذروا عن اضطرارهم لأداء دور مقيت كهذا.
بعد الحرب العالمية الثانية تكررت ثنائية العرس هناك والمأتم هنا. باستثناء بريطانيا التي كانت صاحبة الانتداب على فلسطين، أجمع المنتصرون في تلك الحرب، بمن فيهم الاتحاد السوفياتي، على تأييد التقسيم. مناهضة القرار الشهير الصادر في 1947 عن «منظمة الأمم المتحدة»، التي صنعها المنتصرون، صارت صرخة الحرب الجامعة في المنطقة العربية وبعض العالم الإسلامي. إسقاط «مؤامرة التقسيم» بات يوصف بأنه الواجب القومي الأول والمقدس. بعد 17 سنة، حاول الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة إعادة الاعتبار لمبدأ التقسيم، فشُهر به في المشرق ووُصم بالخيانة.
مع انتهاء الحرب الباردة (1989 – 1991)، كانت المنطقة العربية أيضاً مصدر الرد على من انتصروا في تلك الحرب. في ذروة النشوة التي كانت تصيب المنتصرين الغربيين بتفكك المعسكر السوفياتي، اجتاح صدام حسين دولة الكويت، متحدياً الترتيبات الدولية الناشئة يومذاك، وبعد 10 سنوات كانت «غزوة» أسامة بن لادن لنيويورك وواشنطن.
في مناطق أخرى من العالم، ظهرت ردود على الاقتصاديات النيوليبرالية لما بعد الحرب الباردة. مثلاً، في بوليفيا تمرد الفقراء على شركة «بكتل» الأميركية التي خصخصت مياه الشرب. عندنا، جاء الرد من طبيعة إمبراطورية مُنعت من ممارسة إمبراطوريتها. لم نرد بوصفنا فقراء وضعفاء، بل كأقوياء محرومين من ممارسة القوة.
بالمقارنة مع تجربة أخرى لا تربطها بالغرب مودة خاصة، هي روسيا، نلاحظ التالي. بعد الحرب العالمية الأولى، كانت روسيا البلشفية في صفّ المناهضين للمنتصرين في الحرب. في الحرب الثانية، باتت أحد أكبر أولئك المنتصرين. مع الحرب الباردة، ساهمت بنفسها، مع ميخائيل غورباتشوف ثم بوريس يلتسين، في التمهيد لانتصار الغرب على نموذجها.
هناك، بالطبع، استثناءات عربية لا تلبث أن تؤكد القاعدة…
* ثورة الهاشميين في 1916. التي تعاونت مع البريطانيين، يُفترض أنها انتمت إلى منتصري الحرب العالمية الأولى، لكن ما أن قامت الانتدابات بعد 4 سنوات، حتى قاد ضباطها معظم الانتفاضات عليها. العراقيون منهم الذين تكيفوا مع الوقائع الجديدة، وأبرزهم نوري السعيد، انتهوا إلى مصير لا يُحسَدون عليه. اللعنات ما زالت تطاردهم حتى اليوم.
* الأحزاب الشيوعية العربية، وبسبب صلتها بالسوفيات، يُفترض أنها تندرج في عداد منتصري الحرب العالمية الثانية، لكنها، وجزئياً بسبب صلتها بالسوفيات، ما لبثت أن اندمجت في القوى المناهضة لمنتصري الحرب.
* بعض من يُنسبون إلى الليبرالية يُفترض أنهم انتصروا في الحرب الباردة. لكن ضعف حساسيتهم الديمقراطية والتعددية، بل ضعفهم طرفاً مستقلاً، يلغي كل أثر محلي لتحول كهذا.
القول بأن العالم «ضدنا»، تبعاً لهذه التكرارية التي لا تتغير كثيراً، دهليز يؤدي إلى هيمنة الوعي التآمري، وإلى توسيع المسافة التي تفصلنا عن كل إدراك كوني جامع ومشترك. القول، في المقابل، بأننا نحن «ضد» العالم يقدمنا كاستثناء غريب لا حاجة إلى فهم أسبابه أو تفهم ظروفه ودوافعه.
3 مرات في قرن واحد حصل هذا الصدام. لماذا؟ موضوع يستحق، على الأرجح، أن نتأمله ونفكر فيه.