إضاءة شموع في مكان انتحار علي الهق
تتخطانا الأحداث المأساوية التي تتسابق كمتوالية لوغاريتمية.
يوم الجمعة في الثالث من يوليو وقف المواطن اللبناني “علي الهق” على رصيف في شارع الحمرا مقابل مقهى الدونات بعد أن شرب قهوته، حاملا إخراج قيد يثبت أنه لبناني لا حكم عليه والعلم اللبناني ويافطة تقول: « أنا مش كافر.. بس الجوع كافر”، ثم أعلن: لبنان حر ومستقل » وأطلق رصاصة في فمه حريصا على تغطية وجهه عند سقوطه كي لا يجرح دمه مشاعر المارين. جاء الصليب الأحمر بعد حوالي ربع ساعة، لكن جثمانه بقي ممدّداً في الشمس 4 ساعات لعدم استقباله في مستشفى.
قدّم لنا علي صورة رمزية مكُثّفة للمشهد المأساوي اللبناني: ينتحر اللبناني، رغم إيمانه، لأنه عاطل عن العمل عاجز عن تأمين قوت عائلته في وطن لم يعد حرا ولا مستقلا. يقول: امتهنوا كرامتي. فلم يجد سوى مشهدية الانتحار، آملا أن يحرّكهم انتحاره.
في نفس اليوم انتحر سائق الفان، سامر حبلي، في صيدا. في اليوم الذي تلاه انتحر سائق فان آخر في صور وشخص رابع.
مساء تعرض المحامي المعارض الذي يفضح ملفات الفساد، واصف الحركة، للضرب المبرح إثر خروجه من إذاعة صوت لبنان.
حمل ليل ذلك النهار فيديو لأب قصد بطفله مقر شركة الكهرباء لتأمين التغذية لجهاز الطفل التنفسي.
في هذا اليوم اللبناني النموذجي، انتشر فيديو سيدة تتصل بالقصر الجمهوري، بيّ الكل، لتخبره: “جعنا، وعّوه، قولوا له الشعب اللبناني العظيم جاع. تصرخ وعّوه وعّوه.. جعنا”.
يوميا تتوالى مشاهد العوز كيفما توجهنا: أسير في شارع بلس بعد الغروب بقليل. تتقدم نحوي سيدتان لائقتا الملبس، عند محاذاتهما لي تسبق واحدتهما الأخرى بعد تبادل النظرات. تشير السيدة بإصبعها بشكل مبهم، فأتوقف لظني أنها تريد أن تسألني عن عنوان أو ما شابه، لكنها تتلعثم وتقول لي: بناتي، ولم أفهم باقي الجملة… اعترضتها غصّة. طبعا لم تعتد السيدة أن تطلب صدقة. تتكرر هذه المواقف التي تعتصر القلب يوميا.
أصل شارع الحمرا. أكثر من شخص يقترب في آخر لحظة: معك ألف (ليرة)؟ أو أعطيني ألف (ليرة، ما يعادل نحو 15 سنت أميركي حاليا).
مر بقربي شاب منتصب كالرمح، كأنه لاعب كرة سلة. لا ينظر إليك، يتطلع نحو أفق غائم يخصه. يسير باسطا يده التي تحمل علبتا علكة. يسير بشرود كالمنوّم…
انتشر عبر واتساب ما رواه زكريا العمر لصديقه: “قبل قليل، وأنا أسير بشارع سبيرز في الصنايع وهو شبه المعتم وخالي سوى من السيارات. انتبه لدراجة نارية يخفف السائق من سرعته بمحاذاتي. فجأة ينزل ويهجم عليّ بالسكين وقال لي إنه لا يردي أذيتي أو سرقتي، بل يريد بعض المال لأنه جائع وأولاده في المنزل جائعون ولا يملك مالا لشراء الطعام لهم. طلب مني مالا أو أن نذهب سويا لشراء أغراض من المتجر. أعطيته ما أحمل من مال. أخذ المال، وذهب إلى دراجته، ثم ما لبث أن عاد ليعتذر ويبكي قائلا إن هذه أول مرة يقوم بأمر مشابه.. لكن أولاده جائعون”.
في باص خالٍ تماما سوى من السائق وراكب وحيد، يتبادلان الحديث، فيقول السائق:
“والله العظيم سيارة متل المراية صاحبها بدو يبيعها بألفي دولار! عشرين مليون ليرة!”. يقول له الراكب: “أنا بعت سيارتي الجديدة التي اشتريتها بـ 15 ألف دولار بألف دولار واحد، أي 10 مليون لأدفع قسط جامعة ابني. لو بقيوا معي ألم يكن أفضل لي؟”. سألته: كنت ستضعها في البيت؟ انتبه وأجابني: “لا، كنت سأضعها في البنك وأتعرض للسرقة أيضا”.
تعرضت صديقة لسرقة هاتفها في التاسعة ليلا في منطقة الحمرا فيما تحمله. وزع علينا فيديوهان، أحدها لرجل يشهر مسدسا ويطلب بعض مواد التطهير والتعقيم. الآخر لرجل طلب حفاضات طفل وحليب. يقال إن أكثر من 600 صيدلية تقفل أبوابها إما بسبب عدم قدرتها على متابعة العمل أو بسبب السرقات.
مستشفى بيروت الحكومي نفسه عجز عن تأمين الكهرباء لجميع أقسامه. يعلن لنا مسؤول في أوجيرو (المؤسسة الرسمية المسؤولة عن توفير الإنترنت في لبنان) أن الإنترنت سينقطع عن “البعض”، أي 2 في المئة من مستخدميه، لمدة قصيرة فقط! بسبب عدم القدرة على تغذية محطات التقوية في المناطق.
بعد أزمة الخبز ورفع سعره، تجسدت خطة “حزب الله” الاقتصادية: عرض ربطات خبز على بسطات تحمل صورة حسن نصرالله المبتسم: “طالما السيد موجود، ما حدا بجوع”!. تقول اللافتة التي وضعت على البسطة.
هذه هي كرامة المواطنين “المحفوظة” في لبنان المحرّر ممن كانوا يُعرفون بـ”المقاومة”.
أشعر بالغضب والإهانة عندما أسمع أن الفقر وراء هذه المشاهد وأنه خلف حالات الانتحار. إنه اغتيال وإفقار وإذلال وسرقة. إنه الفساد الذي أوصل اللبناني إلى العوز واليأس والانتحار.
يقولون انتحر لأنه فقير. كأنها مسؤوليته. وكأنه القضاء والقدر. يصبح الفقر عاهة طبيعية لا يمكن الاعتراض عليها!
كلا. يجب رفض فكرة الاستسلام هذه أمام حالة إفقارنا. إنها مسؤولية الحكومة وسياساتها والحروب المفتوحة والحدود السائبة والنهب المبرمج الذي تسبب بالانهيار الاقتصادي.
كتب البعض: “علي الهق انتحر لأنه ذليل”. لا يا سادة، لقد انتحر لمصادرتكم كرامته. انتحر لحفظ ما تبقى له منها. يريد “حزب الله” ومريدوه إقناعنا أننا نجوع لكن كرامتنا محفوظة. لا يا سادة، لا كرامة مع الجوع. كرامة الإنسان في تأمين حقوقه وليس في التغني بتحرير الحجر.
العنف الممارس علينا يوميا، والإفقار الذي تهينوننا، هما عدوا الكرامة الإنسانية. يعرف اللبناني حقوقه وهو بانتظار قضاء وقضاة شجعان لتطبيق العدالة، واسترجاع العدالة. الكرامة تحفظ بحماية الدستور وليس انتهاكه. تحفظ بتطبيق القرارات الدولية ليس فقط في الجنوب بل في الشرق أيضا، ودون تجزئة أو الخضوع لما يريده الحزب. تحفظ بتحقيق العدالة مع قرار محكمة الحريري الدولية المنتظر.
ما تجعلنا السلطة نعيشه هو نموذج عن تفشي التفاهة وتأثير البروباغندا وشيوع الازدواجية والكذب.
أخيرا، تحية للبطريرك الماروني الذي وقف ليطالب بحياد لبنان وباستعادة الشرعية. ولمن يستخدم فلسطين و”العدو” فزاعة لمصادرة وطننا لبنان، نقول فلتكفوا عن التشاطر والتلاعب. مساعدة فلسطين لا تتحقق بتدمير لبنان.
نقول للسلطات الحاكمة، إن لعبة التشاطر “à la carte” الممارسة لن تمر علينا، فعند مطالبة المسؤولين استبعاد شركة كرول للتدقيق المالي لصلتها المفترضة بإسرائيل، بينما يقفز بهم المرشد نحو الشرق وصولا إلى الصين (إذا ارتضت بنا)، التي تبلغ نسبة التعامل التجاري بينها وبين إسرائيل ١٤ مليار دولار، الأمر الذي أقلق أميركا نفسها، لأن التعاون يطال تحديدا ميدان الذكاء الاصطناعي والرقمي في أدواته كافة وليس أقلها تقنيات المراقبة والتوجيه وغيرها من أدوات التجسس!
لا تستغبوا اللبنانيين، سيستعيدون وطنهم وكرامتهم وثقافتهم التي أحيتها لجنة مهرجانات بعلبك وحظيت بشكر وتقدير معظم اللبنانيين الذين يريدون أن يحتفظوا بلبنانهم كمنارة للشرق لأنه الجسر مع الغرب. رغما عن أصحاب تلفزيون المنار.
monafayad@hotmail.com