أثار فيلم ديفيد لين “لورنس العرب” الذي ظهر في أوائل الستينيات امتعاضا واسعا بين النخب العربية بما فيها بعض النخب اللبنانية والسورية.
وجّه الفيلم اهانة مزدوجة للعرب قاطني الجزيرة العربية كما لعرب المشرق، عبر تضخيم دور الضابط الإنكليزي لورنس في الثورة العربية ضد الأتراك على حساب دور الانتلجنسيا العربية، خصوصا السورية واللبنانية المكونة من نخب سياسية ومهنية وثقافية بارزة، بينها من لعب أدوارا مهمة في المؤسسات الدستورية والسياسية والإدارية العثمانية كما في البرلمان المستعاد في ثورة ١٩٠٨. ولورنس هو كاتب وعالم آثار ايضا، أرسلته بريطانيا كمستشار للأمير فيصل الذي قاد الجيش العربي ودخل دمشق مع مرافقيه في ٣ تشرين الأول عام ١٩١٨. كما أن الفيلم المتقن الصناعة تلاعب بمشهدية الصورة البدوية على حساب الصورة المدنية، وحشد له أهم الممثلين، يتقدمهم الراحلون بيتر أوتول، انطوني كوين ، أليك غينيس وعمر الشريف.
وهو ما أعاد الى الأذهان نظرة الاستعلاء لدى بعض الموارنة اللبنانيين، خصوصا المتعاطفين مع فرنسا و المتطلعين الى رعايتها وحمايتها لإنشاء كيان لبناني خاص. وهي نظرة تطلعت الى الحكومة العربية السورية كأنها حكم غريب من بدو الصحراء. وشاركهم آخرون في هذه النظرة، خصوصا من الطبقة الاقطاعية وملاكي الأراضي في سوريا ولبنان.
بعد أكثر من مئة عام، وصف وزير خارجية لبناني أهل الخليج بالبدو المتخلفين، رغم أنّ “هؤلاء البدو” كانوا قد أطلقوا مشروع مدينة نيوم الاستراتيجية وأرسلوا مركبة الى المريخ، كما أصبحت الإقامة والعمل والسهر عندهم حلما لكل صاحب ربطة عنق أو متسرول بجينز. وبعض مدنهم تكاد تتحول لأوائل المدن الذكية والسعيدة في العالم. وكي يكتمل النقل بالزعرور، فإن افتتاحية مونديال كرة القادم القادمة في قطر والتي سيشهدها معظم اهل الكرة الأرضية ستقام في ملعب، بني على شكل خيمة بكامل ديكوراتها البدوية. ولست متأكدا ما إذا كان بعض العنصريين الفارغين والمنفوخين هراء، سيكونون قادرين على مشاهدة أحداث هذه الخيمة. فمن يدري كيف ستكون حالة الظلمة التي أنعم علينا بها حلف الأقليات الذمي والذي يرعاه الحزب الإلهي، والمستقوي على أهله ومواطنيه بخناجر الإمبراطورية الفارسية الجديدة التي يظن قادتها المعممين، أن التاريخ يمكن أن ينبش وأن المستقبل يمكن أن يحفر بنفس الإبر التي تنسج قطع السجاد الفاخر، وإن بالتلازم مع غزوات التخريب والترهيب في العواصم والمدن العربية. ربما لاستعادة أمجاد الزمن الذي كان فيه عاهل المدائن يتقاسم السيطرة على المنطقة، حربا تارة وسلما تارة، مع قيصر القسطنطينية، قبل أن يهتز العالم مع بدء الزمن العربي في القرن السابع وترمى جثة الشاه يزدجرد الثالث ومعه الامبراطورية الساسانية في النهر، ويتزوج بناته الثلاث اولاد الخلفاء أبو بكر وعمر وعلي.
تطبق الظلمة ويعم الخراب في كثير من بلداننا العربية التي تنهشها أنياب التماسيح الاقليمية، وتمزقها مخالب الوحوش العالمية وهي تشق طرقها لاستعادة الأمجاد الضائعة والحفاظ على المصالح المهددة، وصياغة التوازنات الدولية الرجراجة في مرحلة التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تطبع بداية الألفية الثالثة.
وكان القرن الماضي قد أكمل أصفار الألفية الثانية على صرخة فوكوياما: اريكا، اريكا: إنها نهاية التاريخ، بعد أن انهار حلف وارسو وسقط جدار برلين وتفككت أوصال الجمهوريات السوفياتية مع بيريسترويكا غورباتشوف وفودكا يلتسين الذي أدار مدفع دبابته نحو دوما رسلان حسبولاتوف على مرأى من العالم.
لم ينته التاريخ مع انتشاء فوكوياما، واهتز العالم من جديد مع نهوض الصين، كما تنبأ الان بريفيت سنة ١٩٧١. ولم يبق الدب الروسي في سباته، بل نفض عنه غبار الثلج وغرز انيابه في سوريا وأوكرانيا وغيرها من دول أوراسيا ودول السهوب العائمة على النفط والمعادن والواقعة على خطوط الحرير القديمة والجديدة.
مسكينة شعوبنا المقهورة في بلدانها الدائمة التفجر والواقعة في قلب العالم، وهي لطالما شغلت الكون منذ فجر التاريخ وبدء الادراك الانساني، فارسل إليها عشرات الانبياء والرسل والقديسين، كما جذبت الملوك والأباطرة والوحوش الضارية، وتاه فيها حبا وهياما الشعراء والرسامون، وخرجت منها الأحرف والحملات والدياسبورات.
وبينما كان رساما خرائط التقاسم الكولونيالي مستر سايكس ومسيو بيكو يوزعان غنائم المنطقة على فرنسا وبريطانيا، حتى قبل انتهاء الحرب الكونية الأولى واندحار الإمبراطورية العثمانية المفككة، كان لورنس يتدرب مع الأمير فيصل على إتقان لعبة الفرس والجمل تمهيدا لدخول الجيش العربي عاصمة الأمويين.
ومن يلوم بعض الجماعات المذعورة في لبنان الكبير، حين تفتش عن زواريب الهرب من البلد المخطوف، أو تنكمش وتتمسك بعصبية ما، طائفية كانت أو مناطقية او حتى عشائرية، مسبغة عليها قوالب دستورية وسياسية وثقافية وحتى فلسفية، بعد فشل او بالأحرى تعثر انتفاضات عارمة عابرة للطوائف والمناطق والقبائل، وعابرة للاقامة ايضا، كما حصل مع انتفاضة الأرز في ١٤ آذار ٢٠٠٥ وانتفاضة الغضب في ١٧ تشرين أول ٢٠١٩.
بعد مئة سنة من عمر لبنان الكبير وبعد جريمة انفجار مرفأ بيروت المروع، سارع الرئيس ماكرون بالحضور للتضامن مع اللبنانيين المفجوعين. ومع أننا لا نشك بالعاطفة الفرنسية نحو البلد الفرنكفوني الصغير، ونقدر قول ماكرون في ٢٠١٧ أنّ الإستعمار جريمة ضد الإنسانية، متذكرين وقوف الرئيس شيراك مع لبنان بعد تفجير زلزال اغتيال الحريري ورفاقه، إلا أن عجقة التماسيح وصراع الأفيال في المنطقة وشهية المصالح، والأداء الماكروني الملتبس معطوف على التراخي الأميركي، يجعلنا نرتاب ونتذكر مآثر الفرنسيين والبريطانيين والروس والأتراك في الشرق العربي الملوع، بما فيها إنشاء كيان صهيوني طائفي في فلسطين، وتشجيع ورعاية واستغلال جميع الأقليات والمذاهب والملل.
لنستحضر كيف أنعشت هزيمة النمر الليبرالي الثمانيني كليمنصو سنة ١٩٢٠ الفئات الكولونيالية الفرنسية وعلى رأسهم روبير دوكيه الذي عبّد مع ميليران للجنرال غورو طريق الإنقضاض على الدولة العربية السورية الوليدة، وتمزيق اتفاق فيصل/ كليمنصو، بعد أن كان غورو قد حل المجلس الاداري اللبناني واعتقل أكثر من نصف اعضائه وبينهم شقيق البطريرك حويك، وهم في طريقهم الى دمشق لتأييد “الملك الدستوري” وإعلان الاستقلال.
عندما سأل الوزيران فارس الخوري وساطع الحصري زميلهما وزير الدفاع الشاب يوسف العظمة المتوجه إلى ميسلون، عن مستوى الإستعداد لمواجهة القوات الفرنسية الغازية من جهة البقاع، أجابهما بأنّ يهتما بزوجته وابنته. حينها أيقن الوزيران أنّ كل شيء قد انتهى، ولم تنفع، أمام غطرسة ومصالح ومناورات القوى الاستعمارية المنتصرة، مناشدة عصبة أمم متشكلة حديثا كشاهد زور على منطق القوة والمصالح وليس على قوة المنطق وحق تقرير المصير، خصوصا للشعوب غير الاوروبية. كما لم تنفع لجنة كنغ/كرين ومبادئ سيدها ويلسون الذي وصفه الشيخ النهضوي رشيد رضا بأنه هدية من السماء.
بعد نفي فيصل وملاحقة أعضاء الحكومة وأعضاء المؤتمر والوطنيين عموما، خصوصا، و للمفارقة ، الليبراليين الأكثر حداثة وانفتاحا،، دخل غورو دمشق مزهوا، وجال على مرافقها ومعالمها، بما فيها كاتدرائيات باب توما والجامع الأموي، وقد سمع يقول على قبر صلاح الدين الأيوبي “ها قد عدنا” على ما جاء في كتاب اليزابيت طومسون الفائق الأهمية والصادر سنة ٢٠٢٠ بعنوان “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب ودمر الحلف التاريخي بين الليبراليين والإسلاميين الاصلاحيين“.
لا نريد في هذا المقال مناقشة محتوى الكتاب، وسيكون لنا لاحقا جولة واسعة في ثناياه، لانه يشكل وثيقة ادانة مستقلة من داخل البيت لمراوغة الدول الكبرى وفضح ادعاءاتها حول دعم الديمقراطية وحق تقرير المصير، فضلا عن تلطيها وراء حقوق الأقليات.
ولا نرغب بتبني نظرية المؤامرة وتحويلها الى مشجب نعلق عليه كل مآسينا، ونغفل أخطاءنا وخطايانا، ونغطي على خلافاتنا وعلاقاتنا التي تخترقها العشائرية والقبلية والشخصانية التي أبدع بتشخيصها ابن خلدون في صومعته الجزائرية.
كما لا ندعو لاستنساخ التجارب الوطنية والعربية في تلك المرحلة ومراحل الاستقلالات اللاحقة. علما أنّ أحد أهم أبطال الحركة الاستقلالية العربية رياض الصلح قد قادته الواقعية السياسية الى ان يكون اول رئيس لحكومة استقلال لبنان الكبير. ومع أنّ رياض كان احد واضعي الميثاق الوطني، إلاّ أنّه دعا للتخلص من الطائفية باعتبارها تشكل حاجزا أمام المواطنة الحديثة والإدارة المدنية السليمة والحياة السياسية الحرة والديمقراطية.
اليزابيت طومسون برهنت بما لا يقبل الشك أنّ الثرثرة الدائمة في لندن وباريس وواشنطن حول نقص الديمقراطية في العالم العربي تشبه اعتراض جاك السفاح حول ارتفاع نسبة الجرائم. كما أنّ ربطها لصعود الإسلام الراديكالي بتخلي المؤتمرين في فرساي وسان ريمو عن الاستقلاليين الوطنيين والليبراليين الذين تطلعوا لبناء وطن حر ديمقراطي وحديث على الطريقة الغربية، هو ربط قاطع في وضوحه الأخلاقي.
هذا ما كتبه خوان كول وريتشارد ميتشيل استاذا التاريخ من جامعة ميتشيغان.
في الواقع فإنّ التجربة الديمقراطية لم تفشل بل أفشلت، وإنّ لعنة الدكتاتورية قد صعدت على وقع جزمات الجنود الانكليز والفرنسيين، وأن حركة الاخوان المسلمين ظهرت على وقع خيبة الشيخ رشيد رضا ورفاقه من الغرب ونفاقه.
تقول إليزابيث طومسون أنّ من أهم اسباب فشل أو تعثر الربيع العربي هو عدم الثقة بين أطياف ومنوعات ومكونات المجموعات الثائرة، مما مكن الديكتاتوريين والعسكر من النفاذ من هذه الثغرة لاحتواء وتشويه وضرب الثورة الربيعية، بتواطؤ او صمت دولي صارخ، وسوريا أبرز مثال.
وفي شرحها لبنود وأفكار ويوميات الدستور الذي صاغه أعضاء المؤتمر العربي السوري، تظهر اليزابيت كيف أن الشيخ الطرابلسي المتنور رشيد رضا شكل حلقة وصل بين المحافظين الإسلاميين والليبراليين العصريين، فاخرجوا من خلال المؤتمر العربي السوري الواسع التمثيل دستورا ديمقراطيا لملكية دستورية، حيث ان الحكومة مسؤولة أمام البرلمان وليس أمام الملك وحيث أن الدولة مدنية وتساوي بين جميع المواطنين من دون تمييز مع لا مركزية موسعة للمقاطعات، وتطمين إضافي في تمثيل الأقليات. وكاد المؤتمر أن ينجح في موضوع تصويت المرأة حين كانت لا تصوت في فرنسا ومعظم دول أوروبا، وترك الموضوع معلقا.
من درعا دخلت القوات العربية لتحرير دمشق، ومن ثم تعثرت بالخلافات وبلعبة الأمم، ومن درعا انطلق الربيع السوري ثم تعثر لنفس الاسباب.
من ساحة الشهداء انطلقت انتفاضات الربيع اللبناني ثم تعثرت، ومع أن الربيع العربي لم ولن يتوقف في ، حلقاته المتصلة، إلا أنه آن الأوان لوقف التعثر بمواجهة اسبابه المعروفة، خصوصا في لبنان، المحتل عمليا، والمهدد في كيانه وبقطع الهواء العربي عن رئتيه و بالتحول إلى بيدق في لعبة الأمم.
طرابلس في 25\1\2022
ملحمة حقيقية باسلوب راقي تصلح لان تكون صفحة ارشادات على جواز السفر
أرجو من أستاذي (في الرياضيات، قبل سنوات..) الدكتور طلال خوجة أن يذكر مصدر معلومة أن بنات الشاه يزدجرد الثالث تزوّجن، أو تم تزويجهنّ (!) لأبناء الخلفاء أبو بكر وعمر وعلي! هذه أول مرة اسمع بأبناء أبو بكر وعمر..! ولكن، لماذا إستثناء الخليفة عثمان بن عفّان؟ ألم يكن لديه صبيان؟ بصراحة، أشفقت على إخواننا الفرس على هذه « المظلومية »! لعل الله سخّر لهم السيء حسن نصرالله للإنتقام منا، نحن العرب،على ما فعلناه ببنات الشاه! لقد قرأت تاريخ الطبري الكبير، ولم أجد فيه قصة بنات الشاه. وهذه القصة تذكرني بما يورده كتّاب كثيرون تحت عنوان « كما قال الإمام علي ».. وقصدهم، طبعاً، كما كتب… Read more »