يمكن أن يدفع الإسلام والمسلمون ثمن السياسات والممارسات الخرقاء في ألمانيا وغيرها، كما يمكن أن تدفع ألمانيا وأوروبا الثمن في حال عدم الاتعاظ بتجارب الماضي ومنع الوحش النازي وكل وحش متطرف من التكشير عن أنيابه قبل فوات الأوان.
أتى الهجوم على مقهيين لتدخين “الشيشة”، ليل التاسع عشر من فبراير، في بلدة هاناو شرق فرانكفورت الألمانية، ليسجل أكبر عدد من الضحايا في سلسلة من الهجمات الإرهابية التي نفذها خلال الأعوام الماضية متشددون تحركهم دوافع العنصرية والكراهية والقومية الشوفينية ويمكن تصنيفهم في خانة اليمين المتطرف الصاعد في أوروبا.
وسرعان ما أيقظ هذا الحدث التاريخ الألماني وحقبة النازية وذاك الفكر المدمّر في لحظة تفكك المشروع الأوروبي وفي حقبة التخبط الاستراتيجي في العالم. وهكذا فإن “النازية الجديدة” ومثيلاتها من الحركات التوتاليتارية أو القومية المتشددة في أوروبا والشرق الأوسط والهند وباقي آسيا وأميركا وأفريقيا، لم تعد مجرد هواجس وأشباح بل حقائق ومخاطر يجب التعامل معها بأساليب أكثر جدية حتى لا يزداد تهديدها داخل أوروبا القلقة وتؤجج “صدام الحضارات والثقافات والأديان” في عالم تعددي ومتطور في الظاهر لكن تنخره الانطوائية وانعدام إنسانية العولمة.
شهدت ألمانيا في الأشهر الأخيرة عدة هجمات تحت عناوين “العداء للأجانب” والإسلاموفوبيا، وجرى ربطها بموجات الهجرة واللجوء منذ 2014، لكنها تتصل أيضا بالتطرّف العنصري والديني، والفوارق الاجتماعية بين الجزء الشرقي من البلاد وغربها، وكذلك العجز الديموغرافي مع تراجع عدد السكان الأصليين.
ومن أبرز الهجمات اعتداء مدينة هالي في أكتوبر 2019، واغتيال السياسي في «الحزب الديمقراطي المسيحي» فالتر لوبكه في يونيو من العام الماضي. والأخطر كان ما سبق هجوم “هاناو” الذي أوقع تسعة قتلى (بينهم خمسة أكراد من تركيا) عندما نجحت الشرطة في 14 فبراير الجاري من تفكيك خلية إرهابية أطلقت على نفسها لقب “النواة الصلبة” وضمت اثنا عشر شخصا من ستة مقاطعات وكانت تخطط لاعتداءات ضد الجوامع والمسلمين.
وفي مواجهة هذه التطورات، بدت ردة فعل السلطات باهتة وليست على مستوى الترهيب والرعب اللذين يمكن أن يمسا النسيج المجتمعي والسلم الأهلي. واللافت أنه حتى هذه اللحظة لم يتم ربط هجمات اليمين المتطرف بالإرهاب من قبل الجهات الرسمية التي تركز على تصنيف الإرهاب الجهادي المتشدد بـ”الإرهاب الإسلامي”.
وتزداد البلبلة مع التغطية الإعلامية المختلفة والمتباينة إذ يجري التأكيد على الدوافع الدينية في حالة “الأصولية الجهادية”، بينما لا يتم التنبه كفاية للتحذير من الكراهية والعنصرية بسبب رهاب المسلمين والغرباء وليس فقط بسبب ردة فعل على التطرف الإسلاموي الطابع.
يتوافق العديد من الباحثين والخبراء الرصينين في أوروبا على أن “إرهاب اليمين المتطرف يمثل تهديدا كبيرا لحكم القانون في أوروبا عامة وفي ألمانيا خاصة”. وللتخفيف من حجم المخاطر، تبادر السلطات الأمنية في برلين إلى إشهار إحصاءاتها التي تشير إلى انخفاض في عدد الناشطين اليمينيين المتطرفين من 65000 ناشط في أوائل التسعينات من القرن الماضي إلى 24100 في العام 2018، ومع ذلك فإن أولئك الذين يصنفون بالناشطين العنيفين، تضاعف عددهم إذ تطور من 1400 ناشط متطرف عنيف في عام 1990، إلى 12700 شخص في العام 2019.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الهجمات اليمينية المتشددة طالت أيضا اليهود، ففي أكتوبر 2019 قام متطرف يميني بمحاولة تنفيذ هجوم ضد كنيس يهودي في هالي، وتم تجنب المذبحة بسبب تحصين المبنى، كما أنه تمت محاكمة ثمانية من النازيين الجدد في مدينة دريسدن لمدة خمسة أشهر تقريبا للتخطيط لشن هجمات على الأجانب والسياسيين.
ومن المصادفات أن هجوم هاناو وقع بعد فترة قصيرة من اعتماد قانون في مجلس الوزراء الألماني ضد الكراهية عبر الإنترنت، من خلال تعزيز التشريعات التي تلزم الشبكات الاجتماعية بإزالة المحتوى الإجرامي من الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي. ويتطلب ذلك توظيف عدة مئات من ضباط الشرطة الإضافيين لتنفيذ هذه الصلاحيات الجديدة. وسيتعلق هذا التوجه الجديد بالدعاية النازية الجديدة، والإعداد للأعمال الإرهابية.
بيد أن هذا الجهد الأمني والإعلامي ليس كافيا لأن صعود اليمين المتطرف يسبب تصدعا في المشهد السياسي ويعقد مهمة الحد من النزعات المتطرفة، وكان الدليل الأكبر النجاح الذي حققه تيار اليمين المتطرف في انتخابات ولايتي ساكسونيا وبراندنبورغ في سبتمبر 2019.
وبدأ مشوار صعود حزب البديل المتشدد منذ العام 2017، وحينها أتاحت انتخابات المجلس الفيدرالي (البوندستاغ)، ولأول مرة منذ عام 1945 لحزب سياسي عنصري ويميني متطرف الدخول إلى البرلمان وهو حزب “البديل من أجل ألمانيا” الذي ينتمي إلى تيار اليمين المتطرف ويناهض الإسلام واللاجئين والوحدة مع أوروبا.
وعليه نظرا لعدم وجود أكثرية مطلقة اضطر الاتحاد المسيحي الديمقراطي (وحليفه البافاري المسيحي) والحزب الديمقراطي الاشتراكي للتحالف مع الحزب الديمقراطي. وهكذا ارتقى حزب البديل اليميني ليصبح زعيم المعارضة في البرلمان. ومن ثم أصبح عاملا مؤثرا في السياسة الألمانية.
ومن المستجدات المفاجئة كان بدء التعاون بين اليمين واليمين المتطرف من دون تحفظ تماما كما جرى في النمسا، وهذا النموذج يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الاستقطاب وتبرير صعود وتأهيل اليمين المتطرف ليكون من أحزاب السلطة.
زيادة على العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية، تعتبر الحالة الألمانية مختبرا للآثار السلبية لهذا الصعود المتطرف مع الاشتباه بدور روسي وأميركي في تنمية النزعات الوطنية لإضعاف الاتحاد الأوروبي، وتبعا لتعاظم قوة اليمين في بولندا وشرق أوروبا والسعي لتغذية التعارض الألماني – الروسي.
وتمثل مسألة اللجوء والآثار النفسية والعملية لإرهاب تنظيم داعش وامتداداته عناصر دعاية وتجنيد للنازيين الجدد. وتكتمل الصورة مع تعاظم حجم الجالية التركية في ألمانيا (في حربين عالميتين في القرن الماضي كانت تركيا إلى جانب ألمانيا) والتأطير الذي يمارسه حزب الرئيس رجب طيب أردوغان والأجهزة الأمنية التركية ليس فقط لجهة تنظيم المهاجرين الأتراك، واستخدامهم للتأثير في العمليات الانتخابية في داخل ألمانيا أو في تركيا، لكن كذلك لاستقطاب باقي المسلمين مما يثير الشكوك عند الأجهزة الألمانية.
يمكن أن يدفع الإسلام والمسلمون ثمن السياسات والممارسات الخرقاء في ألمانيا وغيرها، كما يمكن أن تدفع ألمانيا وأوروبا الثمن في حال عدم الاتعاظ بتجارب الماضي ومنع الوحش النازي وكل وحش متطرف من التكشير عن أنيابه قبل فوات الأوان.