لا يمكن القول مثلا إن حساب المتتاليات او التفاضل هو إسلامي أو يهودي أو بوذي
إذا كان عالمنا العربي يسعى لتحقيق أي نهضة أو ريادة فليس أمام دوله سوى الإنفاق بسخاء على التعليم، على نحو ما فعلته دول العالم الأول وما تفعله اليوم الدول الآسيوية الصاعدة. وحينما نأتي على ذكر التعليم فإننا لا نعني أي تعليم وإنما التعليم الحديث الذي يستجيب لمتطلبات العصر، مع التركيز على جودته وتوفيره بمستوياته المختلفة للجميع.
وهنا تبرز الرياضيات كمادة محورية يجب أن نوليها الإهتمام الأقصى على إعتبار أنها أس كل العلوم، إبتداء من الكيمياء والفيزياء والأحياء والجيولوجيا والهندسة، وإنتهاء بعلوم الإحصاء والفلك والانواء والمحاسبة والإقتصاد، وحتى الإدارة. بل على إعتبار أنها أيضا أول علم يستوفي شروط الحصول على لقب “علم” لجهة الدقة والموضوعية في زمن مبكر يعود الى بداية القرن السادس قبل الميلاد حينما وضع الرياضي الإغريقي فيثاغورس نظريته القائلة “مربع وتر المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين المقابلين”. أضف إلى ذلك أنه أول علم يتصف بالحياد التام والصرامة والابتعاد عن النوازع الوجدانية والعاطفية والدينية، “فلا يمكن القول مثلا إن حساب المتتاليات او حساب التفاضل هو إسلامي أو يهودي أو بوذي” طبقا لما كتبه المغربي “محسن المحمدي” في صحيفة الشرق الأوسط (21/1/2016).
لقد عرفتْ المجتمعات الحية مدى أهمية الرياضيات في تربية العقول وتحفيزها على الابداع والإبتكار المفضي إلى التقدم والريادة، فاهتمت بها وطورتها وحدثت مقرراتها وطرق تدريسها، فلم تعد بالنسبة للمتلقي مجرد أرقام صماء تـُجمع او تـُطرح او تـُضرب في بعضها، وإنما صارت أيضا سبيلا لتعليم الفلسفة والمنطق للناشئة وغرس القيم النبيلة في نفوسهم. وفي هذا السياق قرأت مؤخرا ما كتبه أحدهم من أنّ الرياضيات علـّمته الكثير من القيم بطريقة غير مباشرة مثل: أنّ بعض “الكسور” لا تـُجبر، وأن هناك شيء إسمه “مالا نهاية” فلا يجوز أن يكون المرء محدود الفكر والطموح، وأن لكل “مجهول” قيمة فلا يصح أن يحتقر الواحد منا شخصا لا يعرفه، وانه بالإمكان الوصول إلى “الإجابة الصحيحة” أو الهدف بأكثر من طريقة فلا داعي لليأس، وأن “العدد السالب” كلما كبرت أرقامه كلما صغرت قيمته كالمتعالين على الناس كلما ازدادوا تعاليا كلما صغروا في عيون غيرهم.
هكذا تـُدرس مادة الرياضيات في المجتمعات الحية، مشفوعة بالرسوم البيانية والتمارين التي تغرس في العقول بيانات وأرقاما عن الدخل القومي والسياحة والصادرات والاستثمارات، بينما هي في مناهجنا العربية لا تزال أسيرة تمارين من قبيل “اشترى تاجر عشرة صناديق من البرتقال بقيمة كذا للصندوق وباع كل صندق بكذا من الدراهم فكم كان ربحه؟”. على أن الإنصاف يدعونا إلى القول أن مناهج تدريس الرياضيات، في منطقة الخليج على الأقل، قد طرأ عليها تغييرات مشهودة فباتت مختلفة عن تلك التي درسناها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ويمكن القول أن هذا انعكس ايجابا على المواد العلمية الأخرى، وبالتالي تمكن بعض شبابنا من التحليق عاليا مع المخترعين ورواد العلوم الأجانب على نحو ما حدث مع الطالب السعودي عبدالجبار عبدالرزاق الحمود الذي اطلقت وكالة ناسا الامريكية للفضاء إسمه (الحمود) على كوكب جديد تم إكتشافه مؤخرا تقديرا منها لأبحاثه الرياضية والفلكية.
ولئن كانت سنغافورة في مقدمة دول العالم التي يشار إليها بالبنان لجهة مناهجها المتطورة في علوم الرياضيات وقدرتها على تحويل الرياضيات من علم جاف إلى علم مستساغ ومقبول لدى الصغار، فإن الهند تعتبر اليوم في مقدمة دول العالم الثالث التي بدأت تولي إهتماما خاصا بتعليم الرياضيات الحديثة لطلبتها منذ أكثر من عقدين، والدليل هو تفوقها المذهل في صناعة البرمجيات التي تدر عليها سنويا بلايين الدولارات، وظهور عقول رياضية هندية تسعى مؤسسات وشركات دول العالم الأول إلى إختطافها وتوطينها عبر منحها الإمتيازات والرواتب الضخمة على نحو ما حدث مع الهندي “سوندار بيشاي” الرئيس التنفيذي لشركة “غوغل” الذي يتقاضى راتبا يصل إلى مائة مليون دولار في العام، أي أكثر من راتب الهندي الآخر “ساتيا ناديلا” رئيس شركة “ميكروسوفت” البالغ 85 مليون دولار.
وبطبيعة الحال فإن الإسمين الهنديين السابقين ليسا سوى عينة من الهنود الذين برعوا في الرياضيات والعلوم ذات الصلة فتم استقطابهم للعمل في الولايات المتحدة. إذ تشمل القائمة أسماء أخرى مثل:”إنديرا نويي” رئيسة شركة بيبسي كولا، و”شانتاو نارايين” رئيس شركة أدوبي، و”أجاي بانجا” رئيس شركة ماستركارد و”فيكرام بانديت” رئيس مجموعة سيتي جروب المصرفية.
وأستطيع أن أجزم أن الهنود ــ بما فيهم الطبقات الفقيرة الكادحة ــ يحرصون حرصا مضاعفا على تعليم أبنائهم الرياضيات المتطورة لإيمانهم بأن ذلك إستثمار للمستقبل وتعبيد للطريق أمام فلذات أكبادهم نحو حياة أفضل. وقد رأيت ذلك رؤية العين من خلال عضويتي في مجلس إدارة مدرسة كومون بالبحرين، وهي مدرسة تدرس الرياضيات وفق الطريقة اليابانية الحديثة لمختلف الأعمار ولها فروع في دول كثيرة، حيث لاحظت أن جل المنتسبين لها هم من أبناء وبنات الأسر الهندية العاملة في دول الخليج من ذوي الدخول البسيطة، فيما لا يشكل أبناء الأسر الخليجية سوى أقل من 10 بالمائة من إجمالي المنتسبين، ناهيك عن أن جل المتفوقين في هذه المدرسة والحاصلين على الجوائز هم من الفئة الأولى.
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh