ننتهي، اليوم، مما شرعنا فيه عن ستيغ لارسن، وثلاثيته. وإذا كنّا تناولنا في مقاربات سابقة بعض جوانب “الثلاثية” فإن شخصية لارسن نفسه تستحق التأمل. فلو حاول شخص، بلغة، وذائقة، وحماسة الستينيات، أن يكتب عن المُثقف الملتزم، ربما لن يجد مثالاً أفضل من لارسن، أو ربما وضعه في الدرجة الأولى.
هذا، على الأقل، ما تبرهن عليه ثلاثة كتب تناولت سيرة لارسن، وكفاحه ضد التمييز والعنصرية، وعلاقاته الإنسانية. أوّلها وأقربها إلى الحياة اليومية “ثمة أشياء أريدك أن تعرفها عن ستيغ لارسن، وعني أنا إيفا غابريلسون” (2011) وصاحبته غابريلسون هي رفيقة لارسن، على مدار ثلاثين عاماً. والثاني “ستيغ لارسن، صديقي” (2010) لكوردو باكسي، وهو مهاجر كردي، وناشط في مكافحة العنصرية في السويد. والثالث “الرجل الذي رحل قبل الأوان: سيرة ستيغ لارسن” (2010) لباري فورشو، وهو بريطاني مختص في جنس الرواية البوليسية، لم يعرف لارسن بصفة شخصية.
وليلاحظ القارئ، هنا، أن أصحاب الكتب الثلاثة كانوا حريصين على تضمين اسم لارسن في العنوان، بعدما أصبحت لصاحبه قيمة تسويقية عالية. وهذه إشارة مفيدة للباحث في قانون السوق، وعلاقة العرض بالطلب.
ومع ذلك، يُسهم الكتابان الأوّل والثاني في رسم صورة عن قُرب لشخصية فريدة، عاش صاحبها، بالمعنى الحرفي تقريباً، على التبغ والقهوة، ولم ينم سوى ساعات قليلة، وأنفق على مدار عقود ساعات الصحو في التحرير والكتابة، وتنظيم حملات معادية للعنصرية والتمييز، ناهيك عن متاعب ومصاعب تمويل مجلته المعادية للعنصرية. ولم يكن نرجسياً ومفتوناً بنفسه، فقد كتب المقالات، والبيانات، والنشرات، بأسماء وهمية، وأسماء آخرين ، وتوارى في المناسبات العامة عن الأنظار.
وبين هذه وتلك، ومع هذه وتلك، عاش حياة المًطارَد، الذي تلاحقه عيون وأنياب الفاشيين والعنصريين. وبما أن عددا من مناهضي العنصرية، في بلاده، تعرضوا للقتل والتنكيل، فعلاً، فقد كان التهديد جدياً. وهذا ما يتجلى، وتبرهن عليه شواهد لا تحصى، في كتابي غابريلسون وكوردو.
والمُدهش أنه وجد ما يكفي من الوقت، وسط هذا الزحام، لكتابة آلاف الصفحات، التي ستصبح، في وقت لاحق، ثلاثية تصل مبيعاتها في العالم إلى ثمانين مليون نسخة. والمدهش أكثر، كما ذكرت غابريلسون، أنه فعل ذلك في آخر عامين من حياته.
ولعل في هذا النوع من حُمى الكتابة، في حياة قصفها الموت قبل الأوان، ما يعيد التذكير بصاحبنا وحبيبنا غسان كنفاني، الذي كتب الروايات، والقصص، والمقالات، والدراسات، واشتغل في تحرير مجلة أسبوعية، إضافة إلى نشاطه السياسي، ومؤتمراته الصحافية، واجتماعاته الحزبية، وحقن الأنسولين، ومناكفات وملاحقات الحياة اليومية.
قبل وفاته بعامين أخبر لارسن غابريلسون عن رغبته في العودة إلى، وتطوير، نص كتبه قبل خمس سنوات، عن رجل يتلقى كل عام زهرة غير معروفة النوع والمصدر في عيد الكريسماس. وما نجم عن العودة إلى، وتطوير، هذا النص أصبح لاحقاً: “البنت ذات وشم التنين“، أي الجزء الأوّل في الثلاثية، المُعنون بالسويدية “الرجال الذين يكرهون النساء“.
والمهم، بقدر ما يتعلّق الأمر بعلوم الأدب، أن لارسن لم يضع مخططاً لرواياته، التي أراد لها أن تكون في سبعة أجزاء، ولم يكتبها بطريقة متسلسلة، كما جاء في شهادتي غابريلسون وكوردو، بل كان يكتب فصلاً في جزء أوّل، ويكتب فصلاً في جزء أراد له أن يكون الثاني أو الثالث، وبعد الانتهاء من كتابة فصول متفرقة، تنتمي إلى حبكات مختلفة، يعيد ربطها لتنسجم مع هذا الجزء أو ذاك، بمعنى أنه كتب ثلاث روايات في وقت واحد، ولو امتد به العمر لكتب رواياته السبع بالطريقة نفسها. وثمة ما يوحي، في شهادة غابريلسون، بوجود فصول أخرى، لم تظهر في الأجزاء الثلاثة المنشورة. وهي لا ترغب في نشرها.
في كتابه، الذي اعتمد على مصادر ثانوية، يذكر فورشو أن سر نجاح “الثلاثية” يعود إلى السيرة “البطولية” لصاحبها. وهذا صحيح في نطاق ضيّق، فمن غير المنطقي تصوّر أن القرّاء الأميركيين والأوروبيين عرفوا شيئاً عن ماركسية لارسن، وسيرته الكفاحية، قبل قراءة رواياته. أما النطاق الضيّق فيصدق في حالة بلاده السويد، فقد كان معروفاً في الأوساط المعادية للعنصرية والفاشية واليمين، هناك، باعتباره من الشخصيات العامة الراديكالية.
ويمكن لفكرة السيرة “البطولية” أن تكون مفيدة، وعلى نطاق ضيّق، أيضاً، إذا ما تضافرت مع حقيقة أن الموت أضفى على السيرة خاتمة أخرجت صاحبها من حُمى المنافسة في الحقل الأدبي، وفي السوق. فقد جاء إلى الحقل المذكور من خارجه، لكن دخوله في صورة كتاب ترافق مع خروجه الفيزيائي من الحياة. وبالعودة إلى فكرة الطائفة المهنية المُغلقة، التي سبق لماكس فيبر تحليل ما يتصل بها من ديناميات الإقصاء والانتخاب، يمكن القول إنه لم يعد مصدر تهديد لأحد.
أما إذا وسعّنا النطاق، قليلاً، فلنقل إن شخصية سلاندر، على نحو خاص، بحمولتها الاجتماعية (العدالة والمساواة)، وانسجامها مع روح العصر (الإنترنت والكومبيوتر والقرصنة والفردانية وثقافة ال Punk، التي لا أعرف لها ترجمة بالعربية، إضافة إلى انهيار التعريفات التقليدية للجنس والجنسانية) من الأشياء التي وضعتها في قائمة أعلى المبيعات.
ذات يوم، في قرية يطبق عليها الجليد، على الحدود الفنلندية ـ السويدية، زرت فنانة تشكيلية تشكو غيابَ الضوء في النهار، سألتُ وماذا تفعلون في الصيف؟ قالت: نمارس الحب. وقبل أيام سألت صديقاً في السويد، لماذا تزدهر الرواية البوليسية هناك؟ قال: لمقاومة الملل. فهل نحتاج إلى ثلج أكثر، وضوء أقل، وجرعة من الملل، ليكتب الناس، في بلادنا، روايات بوليسية، أم ثمة ما هو أبعد؟
khaderhas1@hotmail.com