قبل 45 عاما، في مثل هذا اليوم من العام 1975، استفاق لبنان على انّه في حال حرب. كثيرون رفضوا تصديق ذلك… الى ان تبيّن ان بيروت التي عرفوها، بيروت التي تضمّ أناسا من كلّ الأديان والجنسيات يعيشون في وئامٍ تام، لم تعد مدينتهم!
كانت حرب لبنان حربا اهليّة، لكنّها كانت أيضا حرب الآخرين على ارض لبنان. في الثالث عشر من نيسان – ابريل 1975، وقعت حادثة “بوسطة عين الرمّانة”. كَمِنَ يومذاك مسلّحون ينتمون لاحدى الميليشيات المسيحية وآخرون من أبناء المنطقة لاوتوبيس كان ينقل مسلّحين فلسطينيين، من “جبهة التحرير العربيّة” الموالية للعراق، لدى دخوله حيّ عين الرمّانة المسيحي غير البعيد عن وسط بيروت. قُتل معظم المسلّحين الفلسطينيين الذين كانوا في طريق عودتهم من مخيّم فلسطيني الى مخيّم آخر يقيمون فيه.
ليس معروفا الى اليوم ما الذي دفع هؤلاء المسلّحين الفلسطينيين الى المرور بعين الرّمانة بعد وقت قليل من وقوع جريمة فيه ذهب ضحيتها احد المنتمين الى حزب الكتائب اللبنانية (المسيحي). لكنّ الأكيد ان الحرب اللبنانية بدأت في ذلك اليوم ولا تزال مستمرّة بطرق أخرى.
في الواقع، بدأت الحرب اللبنانية في خريف العام 1969 بعد توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي يعني تخلي لبنان عن جزء من أراضيه لمسلّحي منظمة التحرير الفلسطينية كي يشنّوا منها عمليات تستهدف إسرائيل. إلى الآن، يصعب فهم كيف يمكن للبنان الاقدام على مثل هذه الخطوة التي لا يمكن تفسيرها سوى بالرغبة في الانتحار. لكنّ الثابت ان معظم المسؤولين اللبنانيين وقتذاك سقطوا في الفخّ الذي نصبوه لانفسهم او الذي نُصب لهم. من الصعب تبرير موقف جمال عبدالناصر الذي رعى الاتفاق الذي وقّعه ياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني من جهة وقائد الجيش اللبناني اميل البستاني، الماروني الطامح الى رئاسة الجمهورية، من جهة أخرى.
مرّت الحرب اللبنانية المستمرّة بمراحل عدّة. كانت هناك حرب السنتين (1975-1976) ثم دخول الجيش السوري بغطاء عربي ودولي واسرائيلي من اجل ضبط الانفلات الفلسطيني، وهو انفلات صار بعد ذلك برعاية سورية، خصوصا بعد رحلة أنور السادات الى القدس في تشرين الثاني – نوفمبر 1977 ثمّ توقيع اتفاقي كمب ديفيد في أيلول – سبتمبر 1978 وصولا الى معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار – مارس 1979. صار لبنان ورقة سورية بعدما أصبحت له منافع عدّة. من بين هذه المنافع الإمساك السوري بالورقة الفلسطينية أيضا. سهّل ذلك إصرار ياسر عرفات على امتلاك وجود مسلّح في لبنان، حتّى لو كان هذا الوجود مرتبطا بتلبية رغبات حافظ الأسد الذي لم يتوقف عن وصف “القرار الفلسطيني المستقل” بانّه مجرّد “بدعة”.
من بين المحطات الأساسية في الحرب اللبنانية الاجتياح الإسرائيلي صيف العام 1982، وهو اجتياح توّج بخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان تمهيدا لحلول الوجود المسلّح الايراني مكانهم… برعاية سورية أيضا. ادار حافظ الأسد اللعبة السياسية والعسكرية في لبنان ببراعة. استطاع في كلّ وقت الاستفادة من أي خطأ يرتكبه الأطراف اللبنانيون، خصوصا بعد تخلّصه من الزعيم الدرزي كمال جنبلاط. وما اكثر هذه الأخطاء اللبنانية التي تراكمت في مرحلة ما قبل الاجتياح الإسرائيلي وما بعده، وهي مرحلة شهدت انتخاب بشير الجميّل رئيسا للجمهورية ثمّ اغتياله عن طريق عميل سوري.
لم يتردّد حافظ الأسد في تصفية خصومه. كان هدفه في غاية الوضوح ويتمثل في بقاء لبنان ورقة سورية. هناك خط لم يحد عنه في أي وقت. يقوم هذا الخط على اضعاف المسيحيين كي يكونوا في كلّ وقت تحت رحمته. لذلك كان لا بد من التخلّص من بشير الجميّل ثم من رينيه معوّض الذي انتخب رئيسا للجمهورية بعد توقيع اتفاق الطائف في خريف العام 1989. كانت الانقسامات المسيحية الحليف الاوّل لحافظ الأسد الذي استغلّ الى ابعد حدود وجود قائد الجيش ميشال عون في قصر بعبدا، كرئيس لحكومة موقتة، بين أيلول – سبتمبر 1988 وتشرين الاوّل – أكتوبر 1990 كي يضع لبنان كلّه تحت الوصاية السورية. اقدم ميشال عون، على ما رفضه الرئيس الجميل دائما في عهده بين 1982 و 1988، عندما دخل في مواجهة مباشرة مع “القوات اللبنانية”.
إضافة الى التركيز على الانقسامات المسيحية، ركزّ النظام السوري على الزعامات السنّية. اغتيل المفتي حسن خالد جسديا واغتيل الرئيسان صائب سلام وتقيّ الدين الصلح سياسيا. ولمّا حاول رفيق الحريري إعادة لبنان الى خريطة المنطقة وإعادة الحياة الى بيروت تعرّض لعملية تفجير في 2005 تبيّن في نتيجتها ان ليس مسموحا للبنان الاستمرار في المقاومة وان عليه الخضوع لما بعد انتهاء الوصاية السورية وبداية الوصاية الايرانية.
لا يزال لبنان يدفع الى اليوم ثمن اتفاق القاهرة وثمن القضاء على المحاولة الأخيرة من اجل إنقاذه، وهي مرحلة قادها رفيق الحريري ودفع ثمنها غاليا. دفع ثمنها وصولا الى يوم لم يعد فيه لبنان على علاقة بلبنان الذي عرفناه قبل الثالث عشر من نيسان – ابريل 1975.
ما لم يتحقّق في ذلك اليوم، يتحقّق حاليا بسبب الحسابات الخاطئة لبشّار الأسد الذي لم يدرك معنى تغطية اغتيال رفيق الحريري وان ثمن تغطيته الاغتيال المعروف من نفّذه سيكلّفه الخروج من لبنان عسكريا وامنيا…
بعد 45 عاما على “بوسطة عين الرمّانة”، كما يقول اللبنانيون، يلفظ لبنان في السنة 2020 أنفاسه الأخيرة. اخطر ما في الامر انّ “حزب الله”، أي ايران، بات يقرّر من هو رئيس جمهوريته الماروني ومن هو رئيس الحكومة السنّي. فوق ذلك، لم يعد لبنان يهمّ أحدا. ليس هناك أي طرف عربي مهتمّ بما يحل بلبنان الذي اصبح بلدا مفلسا في ضوء انهيار النظام المصرفي فيه. لم يعد في واشنطن من يسأل هل يؤثر الوضع في لبنان على الاستقرار في المنطقة؟
هناك لبنانيون لا يريدون اخذ العلم بما حلّ ببلدهم الذي لم يعد فيه مكان لشخص يمتلك مؤهلات حقيقية بمواصفات عالمية. بات على كل لبناني يريد ان يجد لنفسه مكانا تحت الشمس الهجرة الى أوروبا او اميركا.
اسّس اتفاق القاهرة في 1969 لانفجار 1975. اسّست التغييرات التي تشهدها المنطقة، بما في ذلك انحيار لبنان لإيران في ظلّ هبوط أسعار النفط لعزلة عربية ودولية للبلد.
انّها المرّة الاولى في تاريخ البلد التي تظهر فيها نتائج حرب مستمرّة منذ 45 عاما فقد خلالها لبنان اي توازن على الصعيد الداخلي في غياب المسيحيين والسنّة والدروز وفي ظل صعود “حزب الله” الذي اقصى ما يستطيع ان يفعله هو تحويل بيروت الى ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.