سيكون صعبا على ايران التخلّي بسهولة عن العراق، خصوصا في ظل التراجعات التي تعاني منها سياساتها على كل صعيد، بما في ذلك الداخل الايراني. لم يعد من ورقة إيرانية حقيقية يمكن ان تساوم بها مع “الشيطان الاكبر” غير العراق، خصوصا بعدما اكتشفت صعوبة الذهاب بعيدا في تغيير طبيعة الديموغافيا السورية. وجدت ذلك صعبا على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلت منذ تولّى بشّار الأسد الرئاسة في السنة 2000 لتشييع مناطق معيّنة… وصولا الى الرقّة وضواحي حلب.
هناك عقل إيراني مريض يظنّ انّ في استطاعة “الجمهورية الإسلامية” لعب دور مهيمن على الصعيد الإقليمي. لم تستطع ايران التخلّص من وهم القوّة الإقليمية المهيمنة، الى ان بدأت تصطدم بالواقع. يعني هذا الواقع بين ما يعنيه ان ايران تحت رحمة الولايات المتحدة وعقوباتها. لذلك نجد الأدوات الايرانية تطالب في هذه الايّام برفع هذه العقوبات التي يبدو انّها اثرت على “الجمهورية الإسلامية” واقتصادها اكثر بكثير مما يعتقد. كان لافتا في الخطاب الأخير لحسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان، دعوته اميركا الى “رفع العقوبات عن ايران” في حال كانت تريد بالفعل مساعدتها في مواجهة وباء كورونا. كشف كورونا انّ “الجمهورية الإسلامية” التي اسّسها آية الله الخميني ليست سوى دولة من دول العالم الثالث، في احسن تقدير.
ليس في ايران من يريد الاستفادة من تجارب الآخرين، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي الذي أراد ان يكون قوّة عظمى… فانتهى به المطاف، بسبب اقتصاده الضعيف، بالطريقة المعروفة التي انتهى بها.
سيبقى العراق العراق وستبقى ايران ايران. ولكن في انتظار الوصول الى هذه النتيجة الحتمية، ستخوض “الجمهورية الإسلامية” حرب استنزاف طويلة مع الولايات المتحدة من اجل ان تخرجها من العراق. سيظلّ ذلك ممكنا، حتّى لو خسر دونالد ترامب الانتخابات المتوقعة في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل. وهذا امر مستبعد الى حد كبير.
يتوقع ان تكون حرب الاستنزاف هذه على جبهات عدّة، احداها الجبهة السياسية. لذلك، اعترضت الجهات التابعة لإيران في العراق، بشكل سريع، على طلب الرئيس برهم صالح من عدنان الرزفي تشكيل حكومة جديدة بعد فشل محمّد توفيق علّاوي في تمرير حكومته في مجلس النوّاب العراقي. ما الذي كان يمكن توقّعه من رئيس الجمهورية العراقية غير استخدام صلاحياته تفاديا لفراغ حكومي يعاني منه العراق منذ اشهر عدّة في ضوء اضطرار عبد المهدي للاستقالة وفشله في إعادة تأهيل نفسه وتعويم حكومته. ما لا يخفى على احد ان كلّ المحاولات التي بذلتها ايران لتمرير مرشّح تابع لها يتولّى موقع رئيس الوزراء في العراق باءت بالفشل. انسحب هذا الفشل على رجالاتها من نوع مقتدى الذي حاول فجأة لعب دور المرجعية لكلّ القوى السياسية في العراق. انتهى الامر بان انقسم جماعته على نفسهم. وهذا ما ظهر من خلال تصرّفاتهم الغريبة في الشارع العراقي وطريقة تعاطيهم مع المواطنين الشيعة المعترضين على الفساد وعلى الممارسات الايرانية في العراق.
ليس سرّا ان الرزفي، الذي يشكّك كثيرون بسمعته وسلوكه، وقد يكون ذلك صحيحا كما قد لا يكون، محسوب على حيدر العبادي. والعبادي هو رئيس الوزراء السابق الذي اصرّت ايران على استبعاده بعد انتخابات ايّار – مايو 2018. كانت لدى ايران رغبة واضحة في الانتقام من العبادي الذي رفض ان يكون نوري المالكي الآخر. قبل عادل عبد المهدي بهذا الدور الذي تريده له ايران وحاول الإمساك بالعصا من الوسط… الى ان أطاحته الاضطرابات الشعبية التي يشهدها العراق منذ تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي، وهي اضطرابات فرضت على عبد المهدي الاستقالة.
ترافق طلب برهم صالح من الرزفي تشكيل حكومة جديدة مع سلسلة هجمات بصواريخ كاتيوشا لميليشيات عراقية تابعة لإيران على اهداف أميركية في بغداد ومحيطها. من الواضح ان هذه الهجمات صارت تشكّل تكتيكا إيرانيا جديدا في العراق هو جزء من حرب استنزاف للوجود الاميركي. كان الرد الاميركي، الى الآن، محدودا. اقتصر على مهاجمة موقع لاحدى الميليشيات. كان ذلك إشارة الى ان الاميركيين يعرفون تماما من يقف وراء صواريخ كاتيوشا.
ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء لا تحصى في العراق، خصوصا منذ قرّرت تسليمه على صحن من فضّة الى ايران وميليشياتها العراقية في العام 2003، لكن الامر الذي لا بدّ من التوقف عنده ان هناك نقطة تحوّل كبيرة حصلت في مطلع هذه السنة عندما اغتيل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري” الايراني مع أبو مهدي المهندس نائب قائد “الحشد الشعبي” في العراق بعيد مغادرتهما مطار بغداد. لم تكن تلك تصفية أميركية لرجل ايران الاوّل في العراق ولاحد مساعديه من العراقيين. كان ذلك نقطة تحوّل على الصعيد الداخلي العراقي وفي المنطقة كلّها. ليس نجاح عدنان الزرفي في تشكيل حكومة وحصولها على ثقة مجلس النوّاب، سوى ترجمة للتحول الذي حصل مع مقتل قاسم سليماني.
في ضوء هذا الواقع، يمكن توقع مقاومة إيرانية شرسة لحكومة برئاسة الزرفي. تشمل هذه المقاومة مزيدا من الضربات التي تستهدف القوات الاميركية في العراق. الأكيد انّه لن يكون امام إدارة ترامب سوى الردّ بقوّة مع ما يعنيه ذلك من أسئلة تتناول الحدود الجغرافية لهذا الرد وهل سيصل الى ايران نفسها؟
في كلّ الأحوال، لم يعد سرّا ان ايران تدافع في العراق عن مستقبلها في المنطقة وعن مستقبل نظامها في ايران نفسها.
لا يمكن لايران الّا ان تخرج مهزومة من العراق لسببين على الاقلّ. اولّهما انّها مرفوضة من العراقيين ومن معظم الشيعة في العراق. امّا السبب الثاني، فيعود الى ان النظام مهزوم في داخل ايران نفسها، ليس لدى هذا النظام ما يقدّمه لاي بلد خارج حدوده غير الميليشيات المذهبية التي تنشر البؤس والتخلّف حيثما حلّت. يظلّ لبنان وسوريا افضل مثلين على ذلك. ليس لدى هذا النظام ما يقدّمه للايرانيين انفسهم. جاء وباء كورونا، بعد العقوبات الاميركية، ليؤكّد انّه لا يوجد شيء اسمه النموذج الايراني. كلّ ما هناك ان إدارات أميركية متلاحقة رفضت رفع العصا في وجه ايران… الى ان اتت إدارة دونالد ترامب التي يبدو انّ لديها موقفا أيديولوجيا من النظام الايراني. يضاف الى هذا الموقف رغبة المؤسسة العسكرية والأمنية الاميركية بفتح ملفات الماضي وما فعلته ايران بدءا باحتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران طوال 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979!