هناك اليوم محاولة جدية لا يزال يقاومها اللبنانيون من اجل القضاء على ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية. هناك بوضوح اكثر سعي إيراني الى السيطرة على البلد عن طريق تغيير النظام فيه والانتهاء من اتفاق الطائف وتحويل سلاح الميليشيا المذهبية المسماة “حزب الله” الى “سلاح شرعي”، على غرار ما كان عليه السلاح الفلسطيني في الماضي القريب.
ظهر ذلك جليا من خلال الخطاب الذي القاه رئيس مجلس النوّاب نبيه بري في اليوم الأخير من آب ـ أغسطس الماضي، في ذكرى غياب الامام موسى الصدر في اثناء زيارة لليبيا عام 1978. تحدّث برّي عن ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ولكن مع الاتفاق قبل ذلك على شكل الحكومة المقبلة وعلى نظام انتخابي جديد. مطلوب تغيير النظام لا اكثر ولا اقلّ وذلك على هامش انتخاب رئيس للجمهورية.
بات واضحا ان النظام اللبناني في شبه انهيار. هذا ليس عائدا الى وجود سلاح “حزب الله” الذي لم يتطرّق الرئيس برّي الى خطورته على مستقبل البلد وابنائه فقط. هناك ايضا شبه حال انهيار في البلد لسبب في غاية البساطة يعود الى انّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية صار مرتبطا بشروط يسعى “حزب الله”، بالتفاهم مع رئيس مجلس النوّاب، الذي هو في الوقت ذاته رئيس حركة “امل” الشيعية، الى فرضها على البلد وابنائه.
لم يعد طبيعيا، كما في البلدان التي يحترم فيها نص الدستور، انتخاب رئيس للجمهورية لدى انتهاء الولاية الدستورية للرئيس الموجود في قصر بعبدا. صار كلّ شيء في لبنان من النوع غير الطبيعي، بما في ذلك وضع شروط على انتخاب الرئيس.
لم تفهم القوى المسيحية في لبنان معنى هذا المأزق الذي غرقت فيه ولا ابعاده ولا النتائج المترتبة عليه. ذهب المسيحيون ضحية التنافس في ما بينهم وغياب رجال الدولة القادرين على استيعاب ما يدور داخل البلد وفي محيطه.
ما لم يفهمه القادة المسيحيون في لبنان، والكلام هنا عن معظم هؤلاء القادة وليس عن جميعهم، انّهم في مواجهة محاولة لفرض اتفاق القاهرة الجديد عليهم. لم يعرف اللبنانيون كيف التخلّص من اتفاق القاهرة القديم الموقع في العام 1969 مع الجانب الفلسطيني الذي جلب عليهم كلّ انواع الويلات. لذلك نجدهم اليوم يخوضون معركة مصيرية تزداد ظروفها تعقيدا مع تحول لبنان دويلة في دولة “حزب الله” الذي لا يعترف بحدود لبنان اوّلا، إضافة الى انّه يسعى الى تغيير طبيعة النظام من اجل ان يصبح سلاحه، وهو سلاح مذهبي في خدمة ايران، سلاحا شرعيا. كيف ذلك؟ يكون ذلك عبر اتفاق القاهرة الجديد الناجم عن نظام جديد هو نظام ما بعد الانتهاء من اتفاق الطائف.
يعتبر الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني، الرابط المذهبي اهمّ بكثير من الحدود الوطنية للدولة وسيادتها. من يحتاج الى دليل على ذلك، يستطيع التمعن في مغزى التدخل العسكري لـ”حزب الله” في سوريا والمشاركة في حرب على الشعب السوري يخوضها النظام العلوي هناك…
هل على اللبنانيين الاستسلام لـ”حزب الله” والقبول بشروطه التي يرّوج لها رئيس مجلس النوّاب بطريقة ناعمة؟ يفترض بهم التعلّم من تجارب الماضي القريب، خصوصا انّه كلّما سنحت امامهم فرصة، اكدوا باكثريتهم الساحقة التعلّق بالدولة اللبنانية. حدث ذلك في العام 1982، لدى انتخاب الشيخ بشير الجميّل رئيسا للجمهورية في الثالث والعشرين من آب ـ أغسطس من تلك السنة… في وقت كان الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية.
ما لا يمكن الهرب منه انّ المسيحيين دُفعوا وقتذاك دفعا الجيش في اتجاه إسرائيل، خصوصا عندما تبيّن ان النظام السوري قادر على استخدام المسلحين الفلسطينيين الى ابعد حدود في غياب قيادات قيادات فلسطينية واعية تعرف ان لا مصلحة فلسطينية في تحوّل “الفدائيين” جيش المسلمين في لبنان، مثلما لم تكن هناك مصلحة مسيحية حقيقية في إنشاء ميليشيات بحجة ان الجيش اللبناني لم يعد قادرا على تأدية الدور المفترض ان يؤديه على الصعيد الوطني.
كان دخول المسيحيين في لعبة الميليشيات من اكبر الكوارث التي حلّت بلبنان وكانت اكبر خدمة للنظام السوري الذي كان همّه محصورا في وضع اليد على البلد واستخدامه في مساومات ذات طابع إقليمي، على غرار ما تفعل ايران الآن.
توفّر ذكرى انتخاب بشير الجميّل رئيسا، قبل أربعة وثلاثين عاما من الآن، فرصة امام المسيحيين وغير المسيحيين للتفكير مليا في كيفية تفادي السقوط في أخطاء الماضي. وهذا يعني التفكير في الأسباب التي دفعت الى اغتيال الرجل، وهي اسباب مرتبطة في انّه صار في مرحلة معيّنة رمزا للالتفاف حول الدولة ومؤسساتها والايمان بها. كان بشير في مأمن من الاغتيال عندما كان من رموز الحرب الداخلية والانقسامات اللبنانية. استُهدف عندما صار عامل توحيد بين اللبنانيين وعندما وضع مصلحة لبنان فوق مصلحة إسرائيل والنظام السوري.
بعد مرور كل هذه السنوات، أي أربعة وثلاثين عاما على اغتيال رئيس للجمهورية كان في الرابعة والثلاثين من العمر، لا يزال لبنان كدولة يواجه الخطر نفسه وذلك في وقت تنهار الدولة السورية للأسف الشديد. من أراد القضاء على لبنان ولم ينجح، يعمل اليوم من اجل القضاء على سوريا.
قاوم لبنان ولا يزال يقاوم. صحيح ان مؤسسات الدولة اللبنانية اليوم اضعف بكثير مما كانت عليه قبل أربعة وثلاثين عاما، صحيح ان لا اهتمام عربيا بلبنان، كما كانت عليه الحال قبل أربعة وثلاثين عاما. لكنّ الصحيح أيضا انّ هناك حاجة الي تذكير اللبنانيين بان الاستسلام لإيران التي تقف خلف “حزب الله” ليس قدرا. لا تزال في البلد مؤسسات تعمل. لو لم يكن الامر كذلك، لما كان وزير الداخلية نهاد المشنوق استطاع القول من طرابلس، عاصمة الشمال، في يوم ذكرى انتخاب بشير الجميّل انهُ لولا وجود الدولة لما كان في الإمكان كشف المجرمين الذين ارتكبوا جريمة تفجير مسجدي التقوى والسلام قبل ثلاث سنوات. لولا وجود النواة الصالحة في الدولة اللبنانية، لما كان في الامكان توجيه الاتهام مباشرة الى الذين يقفون وراء تلك الجريمة، أي للنظام السوري وحلفائه واجهزته والتابعين لهذه الاجهزة.
تفاديا للسقوط في حال من اليأس في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ فيها الوطن الصغير، من المفيد التذكير بانّ لبنان لا يزال، بعد أربعة وثلاثين عاما على اغتيال بشير الجميل، موجودا على خريطة العالم، فيما دول قريبة منه دخلت مرحلة التفتيت. من كان يصدّق ان لبنان سيصمد فيما سيحل بسوريا والعراق، على سبيل المثال وليس الحصر ما حلّ بهما. من يصدّق ان لبنان ما زال يقاوم اتفاق القاهرة الجديد الذي تحاول ايران فرضه عليه…
هل في استطاعة القيادات المسيحية استيعاب خطورة الظروف التي يمرّ فيها البلد، فتتفادى، على الرغم من ضعفها، الوقوع في الفخ الايراني المسمّى اتفاق القاهرة الجديد، وهو فخّ لا يشبه سوى الوقوع في الفخّ العربي ـ الفلسطيني، أي في اتفاق القاهرة القديم الذي لم يكن من هدف له سوى تدمير البلد على رؤوس أبنائه… كي يقول بعض العرب، الذين هُزموا في العام 1967 انّ هناك من لا يزال يقاتل إسرائيل… حتّى لو كان ذلك حتّى آخر لبناني!!