في مثل هذه الايام وخلال اربعة اشهر بين كانون الاول 2010 وآذار 2011 انطلقت خمس ثورات شعبية ضد انظمة استبدادية انطلاقا من تونس الى مصر الى اليمن الى ليبيا الى سوريا. اسقط رأس النظام فيها عدا الاخير، في “عاصفة” لم يتنبأ بها احد، كما هي الثورات الشعبية عادة في عفويتها وانطلاقها بلا تخطيط مسبق او قيادة تحضر لها. وقد دخلت الثورات تاريخ المنطقة الحديث كجيل ثان تلا الجيل الاول لثورات التحرر الوطني العربي التي اندلعت ضد الاستعمار في النصف الاول من القرن الماضي. لكن الثورات في التاريخ العالمي الحديث ليست خطا صاعدا بلا نهاية، فعادةً ما تشهد تراجعات وفقا للخصائص السياسية والاجتماعية لكل مجتمع ومستوى تطوره، ودرجة وعي وتقدم افراده وقواه ونخبه السياسية، وبتأثير الادوار التي تناط بالقوى الخارجية المتدخلة.
الثورات الخمس تختلف من بلد الى آخر ولكنها تشترك وتتشابه في جوانب وتتميز في اخرى. فقد شهدت صعودا في مرحلتها الاولى انتهى في اربع منها برحيل رأس النظام، الا انها عادت لتشهد تراجعات وانتكاسات. فتونس الاستثناء، المتميزة عن البقية، التي وصل حزب النهضة الاسلامي الى الحكم فيها، شهدت تراجعا بعد اغتيال قياديي احزاب علمانية مع رفض شعبي واسع لمحاولة حزب النهضة اسلمة الدستور والقوانين التونسية، تلاها انتفاضة شعبية جديدة، لاقاها النهضة في منتصف الطريق وقَبٍلَ بالرضوخ للارادة الشعبية واجراء انتخابات جديدة، لتعود تونس الى المسار الذي شقته الثورة منذ بدايتها: الديمقراطية والحريات وتداول السلطة.
الا ان الاخوان المسلمين المصريين اختطوا طريقا آخر هو مواجهة الانتفاضة الشعبية العارمة المليونية التي انفجرت ضد سياساتهم الهادفة لاعادة الاستبداد في ثوب ذو لون ديني، وبذلك اتاحوا الفرصة للمؤسسة العسكرية التي تبنت المطالب الشعبية برحيل الرئيس الاخواني، لتعود الى الواجهة السياسية وتعمل لإعادة عقارب الساعة للوراء على حساب تقدم مصر نحو مزيد من الحريات وتعزيز النظام الديمقراطي. قد يعتبر البعض ذلك انتكاسا للثورة وتراجعا تاما عن اهدافها، ولكن برأيي لا يمكن الوصول لهذه النتيجة بشكل مطلق قبل مرور زمن كاف للحكم على مدى احترام النظام الجديد للحريات.
اما في ليبيا فان تسلح الثوار لمواجهة وحشية النظام والتدخل الخارجي العسكري مكّنا لانتشار الميليشيات المسلحة وعدم قدرة النظام الجديد بجيشه المشكل حديثاً على ضبطها. ورغم ان قسماً منها قبائلية، فان الميليشيات الاسلامية هي الاوسع انتشارا، وغالبيتها لا تقبل بالديمقراطية كنظام للبلاد وتفضل “تطبيق الشريعة” التي تتناقض مع الديمقراطية. لذلك رفضت ما جائت به الانتخابات التي اعطتها تمثيلا محدودا في المجلس النيابي، وعادت لحمل السلاح لتغيير النتائج بالقوة بدل قبولها والعمل لتغييرها في انتخابات تالية. وبذلك ادخلت ليبيا في حرب اهلية مدمرة، شكلت انتكاسا للثورة وتراجعا عن اهدافها.
الانتكاس حدث ايضا في اليمن، بعد خط صاعد انتهى بترحيل رأس الاستبداد، مطبوعا بخصائص البلد التي كانت قبل الثورة تتجاذبها قوى مختلفة منها “الحراك الجنوبي” الساعي للعودة للاستقلال، وتنظيم “القاعدة” الذي يهيمن على مناطق وتصل عملياته الارهابية لكل مكان، والميليشيات الحوثية الطائفية المسلحة –”انصار الله”- التي وجدت فرصتها، بعد سقوط النظام الذي كانت تقاتله، للعودة للعب دور اكبر، فتحالفت مع النظام القديم الذي ما تزال بقاياه موجودة في الجيش ويدير خيوطها الرئيس المعزول. كما اعتمد الحوثيون على دعم ايراني، وتحولوا لثورة مضادة اغرقت البلاد في حرب اهلية طائفية وقبائلية.
اما في سوريا فقد وجدت منظمات الاسلام السياسي، المتطرفة اكثر من المعتدلة، طريقها للانتشار والتمكن مستفيدة من الخط الصاعد للثورة في مرحلتها الاولى ومن تحول الثوار لحمل السلاح في مواجهة وحشية النظام في التصدي للتظاهرات السلمية، معتمدة على خبراتها القتالية في دول مجاورة، ومصادرها التمويلية الخارجية المتفوقة مقابل محدودية دعم الدول الصديقة لقوى الثورة المعتدلة، وكردة فعل على تأجيج النظام الاستبدادي للصراع الطائفي واستقدامه ميليشيات مسلحة طائفية من الدول المجاورة وارتكابه لمجازر ذات طابع طائفي. كل ذلك مكن القوى المسلحة للاسلام السياسي المتطرف من الانتقال لثورة مضادة معادية لثورة الشعب السوري وللاهداف التي قام بثورته وضحى من اجلها.
واول هذه القوى تنظيم “داعش” الذي، حالما تمّكن، بدأ في قتال قوى الثورة وطردها من المناطق التي سبق ان اخرجت منها سلطة النظام. وتلته “جبهة النصرة” التي انتقلت ايضا للثورة المضادة ببدئها في قتال كتائب محسوبة على “الجيش الحر” وتصفيتها والاستيلاء على اسلحتها، بعد ان اعلنت انتمائها لتنظيم القاعدة الارهابي وتكفيرها للديمقراطية التي ثار الشعب السوري لتحقيقها، والذي سلطت على الاعداد القليلة منه الباقية في مناطق هيمنتها احكامها المتشددة، مع عقوبات تتدرج من الجلد لاتفه الاسباب مثل التدخين، حتى القتل رميا بالرصاص او رجما للمرأة التي يعتبرونها “زانية”، وخطف سوريين ولبنانيين واجانب للمقايضة مقابل عدم قطع رؤوسهم، وغير ذلك..
وعلى خطى داعش والنصرة تسير كتائب اسلامية سلفية مثل “جيش الاسلام” وكتائب اخرى، لتنتقل بخطى حثيثة للثورة المضادة المعادية لاهداف الشعب السوري والتي يستفيد من تحولها بشكل اساسي النظام الاستبدادي المتوحش، كما استفاد من قتال داعش لثوار الجيش الحر.
*
هكذا رغم التباين في تطور ثورات الربيع العربي الخمس، فان هناك خطا واحدا يجمعها بشكل او بآخر، وهو ان تيار الاسلام السياسي استفاد من خط صعود ثورات الحرية في مراحلها الاولى لتوسيع هيمنته. لكن معظم تيارات الاسلام السياسي على اختلاف اشكالها، معتدلة ومتشددة وسلفية وتكفيرية وجهادية، تنتقل بالتدريج في مرحلة تالية الى صفوف الثورة المضادة، بالتحالف مع النظام القديم كما يحدث في اليمن، او بدون التحالف معه كما في ليبيا وسوريا. وبذلك يمكن ان نجمل دورها في الثورات المختلفة انه سبب رئيسي في فشل هذه الثورات في الوصول الى اهدافها، ان لم يكن “ال”سبب الرئيسي لافشالها.
قد يدعي البعض انها ثورة اخرى “اسلامية”، أو انها من الاساس كانت ثورة دينية لـ”تطبيق الشريعة”. لو كان ذلك صحيحا، لما ادرجت في خانة الثورات، اذ ان الثورة اساسا هي نهوض شامل لامة لاعادة بلد ما الى طريق التطور بعد ان جُمد الاصلاح التدريجي فيه، اي لاعادة وضع البلد على طريق “اللحاق” بالمسيرة الانسانية الحداثية باجراء تغييرات سياسية واجتماعية تتناسب مع العصر. فيما ان “ثورة” الاسلام السياسي هي ضد الحداثة والتقدم وضد الديمقراطية والحريات بشكل خاص، تعمل ليس فقط للعودة لقرون ماضية في الحقوق الانسانية واسلوب الحياة، بل حتى لالغاء القليل الذي تحقق حتى الآن منذ الاستقلال.
وكنتيجة لا يمكن للثورات العربية ان تنجح في تحقيق اهدافها الا اذا عرفت من هم اعداؤها الذين ليسوا فقط الانظمة الحاكمة او بقاياها، بل كل القوى المعادية لاهداف الثورة في تحقيق الحرية، حتى لو كانوا ممن يقاتلون الانظمة المستبدة الراهنة.
لن تنجح الثورات ان لم تفرز وتحدد القوى التي تقف مع اهداف الثورة، لتتكتل وتتوحد وتتحالف، اذ انه لا يمكن “التحالف مع الشيطان” لاسقاط نظام استبدادي كما ثبت من التجربة المعاشة، السورية على الاخص.
ahmarw6@gmail.com