يصحو المجلس الوطني السوري بين وقت وآخر، بعد ان كان “الممثل الحصري” للمعارضة السياسية السورية، ليصدر من تبقى فيه بيانا حول احداث جارية لا يتركها تمر دون ان يلحق بها رأيه، علما أن اصدار البيانات طريقة لإبقاء لافتة المجلس مرفوعة رغم تقلص من بقي خلفها والذي ربما لا يتجاوز أصابع اليد وخاصة الذين تناوبوا على رئاسته. والمناسبة الأخيرة احتلال الموصل ومدن أخرى عراقية من قبل منظمة داعش التي تقود تحالفا هي قوته الضاربة الرئيسية.
لم يقتصر الامر على متابعة الحدث، لكن بيان المجلس يسمي عملية الاحتلال “ثورة شعبية”. ولكيلا يبقى موقف “المجلس” ملتبسا في التسمية، فإن برهان غليون يقول في مقال له: “ما حصل في الموصل ومدن أخرى ليس هجمات منفردة محلية لمنظمة متطرفة مثل داعش، انما هي ثورة واسعة في مناطق كبيرة من العراق تتواصل معها داعش وتعمل بموازاتها”! أي ما يمكن وصفه بوضع الرأس في الرمال لكيلا يرى الدور الرئيسي لداعش في الاحداث الأخيرة. ويذكر بتجاهل المجلس الوطني في عز وكالته الحصرية للمعارضة، لوجود تنظيم القاعدة الممثل في جبهة النصرة ضمن صفوف الثورة في سوريا.
قد تكون الأوراق اختلطت كما يقولون ولكن سياسيين لديهم تجربة طويلة في تعاطي المعارضة ما كان يجب ان يفقدوا البوصلة. المنزلق الذي وقعوا فيه ناتج عن نظرة ضيقة للأمور تفضل الا تتعب نفسها في تفاصيل الأحداث والقوى المشاركة فيها، لترى فيما يجري حاليا طرفان فقط، حكومة المالكي من جهة وهي معادية للثورة السورية، لذلك فالطرف الآخر المعادي للحكومة هو “ثورة شعبية”، فيما ان هناك أطراف مختلفة الأهداف والوسائل في صف القوى التي تصارع الحكومة العراقية الراهنة.
ليس هناك تبرير كاف للتسرع باعتبار ما يحدث ثورة شعبية. فقد طرحت اعتصامات ومسيرات الانبار السلمية في كانون الأول الماضي مطالب شعبية محقة لأهالي المنطقة المعانية من الفقر والتهميش، واجهتها حكومة المالكي الفاسدة باستخدام القوة لتفريقها، كاستمرار في اقصاء شريحة هامة من المجتمع واهمال مطالبها وقمع حركتها السلمية. ولكن ذلك لا يستدعي التشوش والخلط بين الحدثين. داعش استغلت النقمة وحركة الاحتجاج ضد المالكي لكي تقوم باحتلال المدن دون ان تلقى معارضة من الأهالي الذين وقعوا عمليا بين مطرقة النظام وسندان داعش.
الكل يعلم ان داعش المحرك الرئيسي للأحداث والاحتلالات والمواجهات المسلحة، التي تقتصر على منطقة محدودة من العراق لا تتجاوز 20% منه فيما الشمال الكردي والجنوب العربي بعيد عن مثل هذه الاحداث بل هما مهددان من قبل داعش بنقل المعركة لمناطقهم لتدمير مقدساتها وتطويع ملايينها. فداعش أكبر قوة عسكرية، تزحف وتحتل وتقتل وتهدد وتسطو على البنوك وتستولي على الأسلحة الحديثة التي تركها النظام، وتعلن دولتها بين تكريت في العراق والباب في سوريا وتعين خليفتها الذي تطالب له بالبيعة.
تقود داعش، التي يقدر محللون عديدها بعد الحوادث الأخيرة بحوالي 20 ألف مسلح، تحالفا مع قوى أخرى أهمها كتلة الضباط البعثيين السابقين الذين حملوا السلاح منذ سقوط صدام، منهم من يشارك في التنظيم المسلح “النقشبندي” الذي يقوده عزت الدوري البعثي المعروف، ومجموعات مسلحة صغيرة تتبع حارث الضاري المقيم في الأردن ورؤساء عشائر انقلبوا على المالكي بعد ان كان لهم دور في “الصحوات” التي وضعت حدا لتمدد تنظيم الدولة، ولكن المالكي اصطدم معهم فقطع رواتبهم وقضى على حركتهم مما اعطى الفرصة لداعش لتنهض من جديد. جميع هذه القوى التي تجمعها النقمة على حكومة المالكي، انضوت تحت جناح القوة الأكبر داعش.
بعد التشخيص الخاطئ لمعارضين سوريين لما يحدث حاليا في العراق، يكتفي المجلس الوطني في بيانه بنصح العراقيين بان يحفظوا “ثورتهم” بعيدا عن تنظيمات التطرف والإرهاب! فيما ان أي عاقل في العالم يستشعر الخطر من تمدد التنظيم الإرهابي داعش لا بد سينصح العراقيين جميعا في الجنوب والوسط والشمال بالتكاتف والتوحد في مواجهة خطر الداعشية التي لن تبني دولتها المزعومة الا على أنقاض حرب أهلية مدمرة تحول العراق لصومال أخرى وتمكن من تقسيمه. التوحد مسألة ملحة لمواجهة البربرية القادمة والتي تشبه الهجوم الهولاكي على بغداد في القرون الوسطى عندما حرقت مكتباتها فجرى دجلة لأيام بمياه سوداء.
يختلف ويتشابه الوضع في العراق وسوريا في مسائل متعددة. يختلفان في ان النظام العراقي يتمتع بديمقراطية “نسبية”، فقد ثبت من أكثر من تجربة في المنطقة ان الديمقراطية لا تأتي بكبسة زر، بل هي معاناة لسنين إلى أن تصبح نهجا للقوى السياسية لا يمكن الارتداد عنه. جرى استغلال هذا النقص من قبل المالكي لتثبيت بقائه في الحكم ومحاولة التجديد لولاية ثالثة، علما ان ترحيل حكومته ممكن دون حمل السلاح، بضغوط سياسية داخلية وخارجية. بينما النظام السوري من اسوأ الأنظمة الديكتاتورية التي شهدها العصر الحديث، وانتقال الحراك الشعبي السوري لحمل السلاح كان ردا على عنف السلطة الوحشي واستخدامها الرصاص الحي ضد المتظاهرين السلميين.
ويتشابه الوضع في البلدان بدخول قوى غريبة على الثورة. في سوريا تعمل لأهداف خاصة بها مخالفة لهدف الديمقراطية التي قامت الثورة الشعبية السورية لتحقيقه. فيما في العراق استغل الحراك الشعبي المحق ضد حكومة المالكي طرفان، داعش المنظمة التكفيرية، وبقايا البعثيين القدامى الذين يريدون إعادة عقارب الساعة للعهد الصدامي الديكتاتوري البائد. والطرفان أصلا لم يتوقفا إثر سقوط النظام السابق عن عملياتهم الإرهابية التي حصدت مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء منذ العام 2003، والظروف المواتية أتت الآن لتوسيع عملياتهم وانتشارهم.
لا شك ان هناك تداخلا وخلطا في الأوراق، ولكننا نرى لفك التشابك المشوش للأوضاع، ان العراق امام ثلاثة مشاريع، أحدها مشروع دولة طالبانية باتت اوصافها معروفة، والثاني، تحت جناح الأول، أقل حظا بالنجاح بإعادة العراق لنقطة الصفر الصدامية. وهما مشروعان سيمكنان من تقسيم العراق كأمر واقع بين شمال العراق وجنوبه ووسطه، فضلا عن إغراق الأجزاء الثلاثة في حروب مذهبية وقومية لا تنتهي.
المشروع الثالث الممكن والاقرب للعقلانية، هو تشكيل حكومة وحدة وطنية إنقاذية تتمثل فيها مكونات العراق الثلاث، بعد اجبار المالكي على التنحي بدفع من توافق داخلي واقليمي ودولي، تنهي عملية اقصاء أي مكون عراقي وتنصف الجميع بتحقيق مطالب الحراك الشعبي في مناطق وسط البلاد المهمشة، وتعدل مواد الدستور التي تمكن من التمييز بين مكونات العراق، بحيث لا تسمح لأية حكومة قادمة باستغلال ثغراته للاستئثار بالسلطة، وتدفع الناقمين على حكومة المالكي في المكون السني لإنهاء حيرتهم بين داعش والسلطة العراقية، والذهاب للتحالف مع جميع العراقيين لتوحيد الجهود لمواجهة المنظمات الإرهابية، التي هي الخطر الداهم الذي يتهدد الجميع.
* ahmarw6@gmail.com