على الرغم من أن تايلاند شهدت في تاريخها المعاصر الكثير من الهزات في صورة انقلابات عسكرية، ومماحكات سياسية، وقمع للمتظاهرين، وحركات احتجاجات شعبية، فإنه لم يسبق لها أن عانت ما تعانيه اليوم من مستقبل سياسي مجهول وسط إنقسام مجتمعي حاد ما بين تيارين.
والمعروف أن أحد التيارين يقوده “ذوو القمصان الحمراء” من مؤيدي رئيسة الوزراء “إينلوك شيناواترا”، التي قررت المحكمة الدستورية مؤخرا بإجماع قضاتها التسع عزلها مع عدد من وزرائها. أما سبب العزل فنجده في منطوق القرار وهو قيامهاــ بــُعيد وصولها إلى الحكم في 2011 من خلال إنتخابات تشريعية ــ بمخالفة إحدى مواد الدستور عبر إستخدام سلطتها في نقل موظف من موظفي الجهاز المدني ــ المقصود هنا هو الأمين العام لمجلس الأمن القومي “تاويل بليانسري” ــ إلى منصب آخر بطريقة تحقق فائدة سياسية لها ولأسرتها ولحزبها السياسي (حزب بويا تاي).
وبطبيعة الحال فقد رفضت السيدة شيناواترا هذه التهمة قائلة: “كنت دائما متمسكة بالقانون ولم اتورط قط في قضايا فساد أو محسوبية”. أما أنصارها فقد وصفوا القضية بالتافهة، مؤكدين أنها قضية كيدية رفعها ضد شيناواترا بعض خصومها من أعضاء مجلس الشيوخ، علما بأن “بليانسري” أعيد لاحقا إلى منصبه بموجب حكم من المحكمة الإدارية.
أما التيار الآخر فيقوده “ذوو القمصان الصفراء” ممن يطلقون على أنفسهم “اللجنة الشعبية للإصلاح الديمقراطي”.
وهؤلاء يعادون “اينلوك شيناواترا” وشقيقها تايكون المال والأعمال ورئيس الحكومة الأسبق “تاكسين شيناواترا” المقيم في المنفى الإختياري، ويزعمون أن صلاح الأمور في البلاد لن يتحقق إلا بتعديلات دستورية تعيق وصول آل شيناواترا وأنصارهم إلى السلطة مجددا، بل يسعون إلى تحقيق تلك التعديلات الدستورية من خلال مجلس شعب غير منتخب، وهو ما يتناقض مع التسمية التي يطلقونها على أنفسهم وهو “أنصار الإصلاح الديمقراطي”.
وبحسب قرار المحكمة الدستورية، خلَفَ السيدة شيناواترا في منصبها نائبها ووزير التجارة “نيواتومرونغ بونسونغبايسان” على رأس حكومة تصريف أعمال إلى حين إجراء إنتخابات تشريعية جديدة في العشرين من يوليو القادم. غير أني اتفق مع الكثير من متابعي الشأن التايلاندي ممن لا يرون في الانتخابات القادمة مخرجا للأزمة. فلو أثمرت الانتخابات عن عودة شيناواترا أو أي من حلفائها السياسيين إلى الحكم فإن “ذوي القمصان الصفراء” سيكونون لها بالمرصاد، والعكس صحيح. بل يمكن القول أن طرفي الأزمة يستعدان منذ الآن لمواجهات جديدة ستغرق هذه البلاد في الفوضى وستدمر إقتصادها المزدهر، علما بأن مثل هذه المواجهات بدأت في 2006 على إثر إطاحة الجيش بـحكومة تاكسين شيناواترا المنتخبة، وخلــّفت حتى الآن المئات من القتلى والجرحى، وتسببت في خسائر إقتصادية ببلايين الدولارات ولاسيما في قطاع السياحة الذي يــُعتبر عمود إقتصاد البلاد.
فبمجرد إذاعة قرار المحكمة الدستورية بعزل رئيسة الحكومة تداعى أنصارها وأنصار شقيقها، وجلّهم من الريفيين الذين استفادوا من مشاريع الأخير في المناطق الشمالية النائية، لتنظيم مظاهرات شعبية منددة بقضاة المحكمة الدستورية ومتهمة إياهم بإستخدام القضاء للتخلص من السيدة التي لم تستطع المظاهرات الشعبية طيلة 6 أشهر إسقاطها، الأمر الذي رد عليه “ذوو القمصان الصفراء”، وجلهم من سكان المدن ومن الطبقة الوسطى المتعلمة أو من الجنوبيين المؤيدين للملكية بقوة، بالقول أنهم سيقدّمون موعد مظاهرات كان قد سبق لهم الاتفاق عليها، بل قام هؤلاء فعلا ــ أثناء كتابة هذا المقال ــ بتأزيم المشهد عبر التظاهر واحتلال مقار الدولة.
والحقيقة أن قرار المحكمة الدستورية قد خيب آمال “ذوي القمصان الصفراء”، وإنْ منحهم نصرا رمزيا! فهو لئن عزل رئيسة الوزراء من منصبها، فإنه أبقى حكومتها في السلطة لتدير البلاد لفترة انتقالية، بينما كان هؤلاء يمنون النفس بطرد الحكومة بأكملها وإحلال حكومة جديدة مكانها قادرة على إجراء إصلاحات دستورية قبل موعد الانتخابات القادمة، بحيث تطهر تلك الإصلاحات الحياة السياسية من آل شيناواترا.
على أن أعداء وخصوم آل شيناواترا لا تزال أمامهم فرصة لتحقيق أحلامهم! حيث أن “اينلوك شيناواترا” عليها أن تخوض بعد عزلها معركة قانونية طويلة أمام مفوضية مكافحة الفساد التي تنظر في قضية أخرى منفصلة مرفوعة ضدها تتعلق بإهدارها لبلايين الدولارات من أموال الدولة في مشروع لدعم زراعة الأرز كنتيجة للإهمال وسؤ التصرف. فإذا ما فشلت في كسب هذه القضية فإنه قد يصدر حكم ضدها بمنعها من المشاركة في الحياة السياسية لمدة خمس سنوات، وهذا ما يتمناه خصومها كيلا تــُقــْدم على الترشح في انتخابات يوليو المقبلة.
إن الكثير من الانتقادات وجهت في وسائل الاعلام التايلاندية المتمتعة بهامش واسع من الحريات لقرار المحكمة الدستورية آنف الذكر. حيث اتهمها البعض بالتسرع في اصدار حكمها ضد رئيسة الوزراء وكأنها تحابي خصومها، خصوصا وأن لهذه المحكمة سوابق كثيرة لجهة الانحياز ضد آل شيناواترا. ففي 2008 مثلا أصدرت المحكمة نفسها حكمين ضد رئيسين من رؤساء الحكومات الحليفة لـ”تاكسين شيناواترا”. وفي شهر مارس الماضي أبطلت ذات المحكمة نتائج إنتخابات الثاني من فبراير 2014 متضامنة بذلك مع الذين مارسوا الشغب في الشارع من أجل إعاقة تلك الانتخابات، الأمر الذي جعل البلاد تعيش حالة فراغ تشريعي.
ونختتم بتسليط بعض الأضواء على السيدة شيناواترا التي دخلت تاريخ بلادها كأول إمرأة تتولى رئاسة الحكومة، وبيان انجازاتها واخفاقاتها.
كتب الكثيرون يوم أن فازت شيناواترا (46 عاما) في إنتخابات 2011 قائلين أنها لا تتمتع بأي خبرة تؤهلها لقيادة البلاد، وأن مجيئها ليس سوى تمهيد لعودة شقيقها إلى السلطة. وأضاف آخرون أنه حتى لو لم يتمكن شقيقها من العودة من منفاه الإختياري فإنها ستكون دمية في يديه يحركها من على بعد لتنفيذ مآربه.
غير أن هذه السيدة الجميلة والأنيقة والثرية والمؤهلة تأهيلا أكاديميا عاليا ــ حاصلة على شهادتي البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية وإدارة الأعمال من جامعة كنتكي الإمريكية ــ وصاحبة الخبرة العملية في إدارة مؤسسات عائلتها الضخمة العاملة في مجال الاتصالات والتطوير العقاري، استطاعت أن تثبت خلاف ما قيل عنها.
فطوال أكثر من سنتين من حكمها تمتعت تايلاند باستقرار نسبي معطوف على حالة من الانتعاش الاقتصادي. غير أن مشكلتها الرئيسية تمثلت حصريا في حقيقة كونها شقيقة لرئيس وزراء هارب مغضوب عليه جماهيريا في نصف أقاليم البلاد على الأقل، الأمر الذي وضع كل تصرفاتها وخطواتها تحت المجهر الشعبي. فلولا هذا الأخير وهروبه من البلاد لما فكرت اينلوك شيناواترا يوما أن تدخل عوالم السياسة ودهاليزها القاتمة.
أما غلطتها القاتلة، التي فجرت الشارع التايلاندي شغبا ومظاهرات وصدامات، فقد تمثلت في مشروع تقدمت به للبرلمان في نوفمبر 2013 للعفو السياسي. حيث رأى الكثيرون من خصومها في هذا المشروع توطئة لإسقاط كل الأحكام القضائية الصادرة ضد شقيقها، وبما يمهد السبيل أمامه للعودة من منفاه دون أن يـُمس أو يـُعاقب، بل بما يمهد الدروب له للعودة إلى السلطة مجددا.
باحث ومحاضر في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين
Elmadani@batelco.com.bh
فقرة الهامش:
لم يسبق لتايلاند أن عانت ما تعانيه اليوم من انقسام مجتمعي حاد