راهن المفكر جمال حمدان، في مؤلفه الفريد عن شخصية مصر، على إمكان نهاية الكبوة العربية من خلال دور قيادي لبلاده، حيث أن تموضعها الجيوبوليتيكي يتيح لها أن تكون أساساً لنموذج يبرز الرصيد الحضاري الكبير للعالم العربي في الدوائر التي تحيط به: دائرة البحر الأبيض المتوسط (في التفاعل مع أوروبا)، والدائرة الأفريقية ووسط وشرق آسيا.
من هنا اتجهت كل الأنظار نحو “أم الدنيا” منذ كانون الثاني – يناير 2011، لتكون الرافعة لمشهد سياسي جديد ليس لكونها فقط أكبر بلد عربي وأكبر بلد إفريقي، بل لأنه تم فيها انتخاب أوّل رئيس إسلامي بواسطة الاقتراع المباشر في دنيا العرب، وتزامن ذلك مع نجاح التيار الإسلامي في تونس وليبيا.
وبما أنّ مصر هي مركز التنظيم الدولي لجماعة الأخوان المسلمين التي نشأت فيها منذ 85 سنة، اعتبر المراقبون وأصحاب القرار أنّ ما جرى يُدشّن حقبة من الصعود الإسلامي الأخواني كبديل عن الأنظمة السلطوية الساقطة.
ولم يكن من الصعب على واشنطن التسليم ببراغماتيكية مع هذا التحول شرط عدم مسّ اتفاقات “كامب ديفيد” ومراعاة المصالح الأميركية، ووافقت بريطانيا وألمانيا بسهولة على هذا الطرح، وعادت باريس والتحقت به بعد الكلام عن بعض الشروط حول حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات واحترام التداول الديموقراطي كمدخل للتعامل مع المنتصرين في “الربيع العربي”. وفي مواجهة ذلك كان هناك عداء وحذر من قبل باقي الخمسة الكبار، أي الصين وروسيا.
بيد أنّ ما لم تفكر به واشنطن حصل بأسرع من لمح البصر، وبدا لفشل الإخوان فشلاً ذريعاً وعشية الحلقة الثانية من الثورة في 30 حزيران/ يونيو 2013، أتى التوصيف الأدق للصراع من اتحاد كتاب مصر إذ اعتبر أنه “صراع بين ثقافة جماعة مؤطرة بإرث تاريخي يصلح لها وحدها وثقافة شعب متعدد العقائد والمشارب والثقافات والاتجاهات”.
في مواجهة السعي إلى السيطرة على كل مفاصل الدولة وحكمها بشكل أحادي، وضعت جماعة الأخوان نفسها في مواجهة شرائح واسعة من المجتمع والدولة العميقة، وهذا يفسر قوة الدفع للحراك الثوري في نسخته الثانية.
أما الدكتور محمد مرسي فقد سار على نهج سلفه، واعتبر التحرك مجرد ثورة مضادة تقودها فلول مبارك، متجاهلاً المعارضة وحركة “تمرد” وشبابها والحياديين والناقمين واليائسين من انهيار الوضع الاقتصادي.
حيال مخاطر الصدام الاهلي الواسع، كرّر الجيش المصري ما قام به في الحلقة الأولى للثورة، ونفّذ انقلاباً عسكرياً التفافياً. وفيما يتفاقم الجدل حول وصف ما جرى أخيراً بالانقلاب أو الثورة المتجددة، يتساءل البعض، عن حق، عن عدم قدرة الإحداث العربية في السنوات الثلاثة الأخيرة على كسر الحلقة المفرغة بين العسكر والإسلاميين.
نظراً إلى الاستعصاء الحالي ومخاطر العنف المدني، بدا الارتباك الدولي سيد الموقف. مقابل وضوح ألمانيا في التركيز على فشل الديموقراطية، بدت المواقف الفرنسية والبريطانية اكثر تبايناً، إذ لم يتم ذكر كلمة انقلاب وجرى الاكتفاء بالنصائح لإعادة سريعة إلى المسار الديموقراطي. هذه المواقف الأوروبية المترددة والحذرة كانت موضع انتقاد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي أشاد بقرار الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية مصر.
بيد أن الحرج الكبير هو الذي يطبع موقف واشنطن التي لم تتمكن سفيرتها آن باترسون من إقناع قيادة القوات المسلحة المصرية بمنح مهلة إضافية لمرسي، ولذلك تجد الولايات المتحدة نفسها متهمة من الفريقين وصدقيتها على المحك.
ومن الواضح أنّ الفشل السريع لحكم الأخوان يعتبر نكسة إضافية للسياسة الأميركية بعد انسحابها من العراق وقتل السفير الأميركي في بنغازي ومشاكلها في سوريا أو على صعيد إعادة إطلاق عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية.
مقابل الحرج الأميركي والارتباك الأوروبي، تظهر “الشماتة” في الموقف الروسي، إذ حذّر فلاديمير بوتين من “مخاطر انجرار مصر الى أتون حرب أهلية على غرار ما هو حاصل حاليا في سوريا” .
أما الصين وجنوب أفريقيا، فقد أتى الحدث المصري ليعزز قناعتهما بفشل “الربيع العربي” تحت حجة عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
في انتظار تطورات الايام والأسابيع المقبلة، ستكون واشنطن معنية بشكل مباشر بخريطة الطريق الانتقالية وهي تملك ورقة المساعدات إلى الجيش المصري، والتي تزيد قيمتها عن مليار دولار سنوياً، لتضغط باتجاه تقصير المهل والعودة السريعة إلى المسار الانتخابي. لكن الانعطاف المصري يُثبت اكثر من أي وقت مضى خروج المسارات الثورية عن منطق التحول الديموقراطي الكلاسيكي واحترام استحقاقاته.
أمام الغضب الهادر للشباب والفقراء والمعوزين وأبناء الطبقات الوسطى (كما حصل في تركيا والبرازيل وغيرهما) تسقط الحسابات الإيديولوجية والاصطفاف التقليدي، وتجد دوائر القرار العالمي والإقليمي نفسها في موقع الشاهد بعيدة عن صنع الحدث وتداعياته ومفاجآته.
khattarwahid@yahoo.fr
الجمهورية