في أواخر الشهر الماضي إستقبلت أفغانستان “تشو يونغ كانغ” المسؤول الصيني الأول عن الأمن الداخلي وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي في بكين، والذي جاء من أجل توقيع عدد من الإتفاقيات الإقتصادية والأمنية.
مراقبو الشئون الأفغانية فسروا هذه الزيارة النادرة التي تعتبر الأولى لمسئول صيني رفيع إلى أفغانستان منذ نحو 50 عاما برغبة بكين في تعزيز نفوذها في أفغانستان، في مواجهة التحركات الهندية والباكستانية والإيرانية، وذلك قبل إنسحاب القوات الغربية والأطلسية من الأراضي الأفغانية والمقرر إتمامه في عام 2014 . هذا الإنسحاب الذي قد يؤدي إلى فلتان أمني واسع، وبالتالي زيادة نفوذ الحركات الجهادية الأفغانية الداعمة للإنفصاليين من مسلمي الإيغور في إقليم “شينغيانغ” الصيني
لقد تعرضت العلاقات الأفغانية – الصينية منذ تدشين التبادل الدبلوماسي بين البلدين في عام 1955 إلى الدفء والبرودة بحسب من كان يجلس على هرم السلطة في كابول. ويمكن القول بصفة عامة، وقبل أن ندخل في التفاصيل، ان كابول وبكين إرتبطتا بعلاقات تعاون وثقة متبادلة في الخمسينات والستينات اي في حقبة الملكية بقيادة محمد ظاهر شاه، وذلك على الرغم من الخطاب الراديكالي لنظام “ماو تسي تونغ” المحرض ضد الأنظمة الملكية، وأن هذه العلاقات لم تبدأ بالإنتكاس والتراجع إلا مع حدوث الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، ثم إزدادت إنهيارا في ظل حكم المجاهدين وحركة طالبان.
ويقول التاريخ الكرونولوجي لعلاقات هذين البلدين المرتبطين من جهة الشمال الشرقي بحدود برية قصيرة نسبيا، أن أول تبادل للزيارات بين كبار مسئوليهما كان في عام 1957، وذلك حينما قام رئيس الوزراء الصيني “تشو إن لاي” برفقة نائبه “هي لونغ” بزيارة رسمية لكابول إلتقيا أثناءها بالملك ظاهر شاه ورئيس وزرائه محمد داوود خان ونائب الأخير علي محمد ووزير الخارجية محمد نعيم. ولم تمض بضعة أشهر إلا وكان محمد داوود خان ونائبه يردان الزيارة للصينيين ويوقعان معهم إتفاقيات تستهدف تعزيز العلاقات البينية وتوطيد أركانها. غير أن عملية ترسيم الحدود المشتركة وتسوية النزاع حول ممر “واخان” المسيطر عليه من قبل الأفغان، والواقع على الحدود بين ولاية “باداخشان” الأفغانية وإقليم “شينغيانغ” الصيني لم تحسم إلا في عام 1963 ، الأمر الذي سمح للعاهل الأفغاني وعقيلته القيام بأول زيارة ملكية للصين في العام التالي. وقد ساهمت هذه الزيارة في تعبيد الطريق أمام توقيع أول إتفاقية للتعاون الإقتصادي والتكنولوجي والثقافي بين البلدين في عام 1965 .
لم تتاثر العلاقات الصينية – الأفغانية بالأنقلاب الذي قاده محمد داوود خان ضد الملك ظاهر شاه في عام 1973 ، والذي ألغى النظام الملكي واستبدله بالجمهوري، خصوصا وأن بكين إستجابت على الفور لطلب النظام الجديد بالإعتراف به. غير أن المشهد كان مختلفا تماما في أعقاب الإنقلاب الشيوعي الذي قاده العميد “عبدالقادر” قائد سلاح الجو الأفغاني في عام 1978 ضد نظام داوود خان، والذي كان وراء تحويل أفغانستان إلى “جمهورية شعبية ديمقراطية” على رأسها “نور محمد ترقي”. فلئن إستجابت بكين لطلب الإنقلابيين الجدد بالإعتراف بنظامهم الجديد، فإنها سرعان ما إكتشفت خطأها، وذلك حينما وجدت هؤلاء يرمون بأنفسهم في أحضان موسكو ويلتزمون بسياسات الأخيرة المعادية للصين. وكرد من نظام “ترقي” الشيوعي على تحفظات بكين إزاءه، راحت كابول تعرب عن إستنكارها للتقارب الصيني – الإمريكي الذي أعقب لقاء الرئيسين “ماوتسي تونغ” و”ريتشارد نيكسون”، وعن شجبها للغزو الصيني لفيتنام في فبراير 1979 . ثم جاءت الضربة القاصمة التي دمرت كل جسور الثقة والتعاون والتفاهم ما بين البلدين، وذلك إبتداء من ديسمبر 1979 الذي شهد الغزو السوفيتي لأفغانستان، ثم ما حدث لاحقا من تطورات تمثلت في ظهور الفصائل الجهادية المقاومة للسوفييت، إنطلاقا من الأراضي الباكستانية وبدعم إمريكي وغربي وإسلامي. هنا شنت كابول حملة إعلامية ودبلوماسية كبيرة ضد بكين متهمة إياها بتقديم الدعم والتدريب والسلاح لجماعات المجاهدين المدعومة من الغرب.
وبطبيعة الحال سارعت بكين إلى إدانة الغزو السوفيتي للأراضي الأفغانية، كما إمتنعت عن الإعتراف بحكومة “بابراك كارمل” الذي نصبتها موسكو خلفا لحكومة ترقي. وأتبعت الخطوتين بخطوة أخرى ذات دلالة على إمتعاضها مما يجري، وهي تقليص مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع كابول إلى مستوى قائم بالأعمال.
ومع سقوط حكومة نجيب الله الشيوعية المدعومة من موسكو في عام 1992 ، ووصول المجاهدين إلى الحكم، وتأسيسهم لجمهورية أفغانستان الإسلامية، طبـّعت بكين علاقاتها مع كابول رغم شكوكها في سياسات النظام الجديد، وأعادت فتح سفارتها في العاصمة الأفغانية، لكن دخول فصائل المجاهدين في حرب أهلية جعلتها تغلق سفارتها مجددا في عام 1993 وتسحب دبلوماسييها خوفا على حياتهم. وهكذ ظلت علاقات البلدين الثنائية مذاك شبه مقطوعة وتعاونهما يكاد لا يذكر، قبل أن يتحولا إلى عدوين بـُعيد وصول حركة طالبان إلى الحكم في عام 1996 ، وذلك على خلفية إتهامات بكين للحركة بضلوعها في دعم وتدريب وإيواء مسلمي الإيغور الصينيين المطالبين بدولة منفصلة في “شينغيانغ” (تركستان الشرقية)، وتهريب الأسلحة لهم عبر الحدود الجبلية المشتركة. ومما لاشك فيه أنه بسبب هذه الخصومة وقفت بكين موقفا مؤيدا للعملية الإمريكية في عام 2001 للإطاحة بالنظام الطالباني.
وبسقوط طالبان عاد الدفء والتعاون إلى العلاقات الصينية – الأفغانية، ورأت بكين أن من واجبها ومقتضيات مصالحها الإستراتيجية أن تدعم حكومة الرئيس حامد كرزاي. وعليه تسارعت وتيرة زيارات المسئولين الأفغان إلى بكين ولقاءاتهم مع القادة الصينيين، والتي شملت زيارة كرازاي إلى بكين في عام 2002 وإلتقائه بنظيره الصيني “جيانغ زيمين” ورئيس الوزراء “زو رونغجي”، وزيارة نائب الرئيس الأفغاني “نعمة الله شرهراني” ولقائه بنظيره الصيني “زينغ قينغهونغ” في عام 2003 ، وزيارات وزير الخارجية عبدالله عبدالله المتكررة. إلى ذلك أعادت بكين فتح سفارتها في كابول، وأعادت إلتزامها بإحترام حدود وسيادة الأراضي الأفغانية. كما أظهرت تعهدات واضحة خلال مؤتمرات الدول المانحة بتقديم القروض والمنح والهبات والمساعدات الفنية لجارتها الأفغانية بغية تمكينها من إحلال السلام ومحو آثار السنوات الطويلة من الحروب والعنف والدمار. حيث قدمت ما مجموعه أكثر من 200 مليون دولار في شكل مساعدات متنوعة، وإستثمرت ما مجموعه 600 مليون دولار في مشاريع داخل أفغانستان، ناهيك عن إرسالها لفرق ووفود كثيرة للوقوف على ما تحتاجه أفغانستان لجهة إعمار ما تهدم من بنيتها التحتية الفقيرة أصلا.
إذا ما أخذنا في الإعتبار المسئوليات المناطة بالزائر الصيني الجديد “تشو يونغ كانغ”، ومن بينها محاربة الإرهاب وقمع الحركات الدينية والإنفصالية وبناء القدرات الأمنية، فإن زيارته النادرة لكابول قد تكون لها علاقة بحرص القيادة الصينية على مساعدة الأفغان في تدريب وتمويل وتجهيز قوى الأمن والشرطة الأفغانية، تحسبا لموجة جديدة من التطرف والعمليات الإرهابية فيما بعد عام 2014 .
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
.