تظاهرات الثوار المصريين، التالية على 25 يناير، وهي ذروة تعبيرهم السياسي، لم تكن كلها في خدمة ثورتهم. بعض هذه التظاهرات، كانوا هم الداعون اليها، والمنظمون لمجرياتها، ولكنها صبّت مباشرة في صالح الاخوان المسلمين، مثل تظاهرات الإستنكار لمجزرة ستاد بور سعيد، أو مثل المعارك المباشرة التي خاضوها ضد العسكر، في شارع محمد محمود خصوصاً، عشية الإنتخابات البرلمانية، فيما كان الاخوان المسلمين والسلفيين يجوبون العاصمة والأنحاء في حملات منظمة لصالح مرشحيهم. أما البعض الآخر من هذه التظاهرات، فكانت من تنظيم الاخوان المسلمين، اشترك فيها الثوار، إيمانا منهم بأولوية محاربة «الفلول»، المتمثلين بأحمد شفيق، في الانتخابات الرئاسية، مثل تظاهرات الاحتجاج على «الإعلان الدستوري المكمِّل» الصادر عن القوات المسلحة، والقاضي بمصادرة كل سلطات رئيس الجمهورية.
قبيل ذلك، أي أثناء حملة الدورة الأولى للإنتخابات للرئاسية نفسها، إستعار اثنان من مرشحيها، حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح، صفة «الثوار». مع ان الأول، صباحي، هو الفرع المدني، أو النسخة المدنية، للحقبة الناصرية؛ وهي نسخة غير مطابقة للأصل الذي هو الجيش؛ الذي ورث سلطة تلك الحقبة، وقد نمت مع عهديّ السادات ومبارك، لترسو على إمتيازات ومصالح إقتصادية ضخمة، صار الجيش بفضلها أشبه بدولة داخل الدولة. فيما الثاني، أبو الفتوح، هو النسخة «الوسطية» لإسلام سياسي، غير مطابقة، هي أيضاً، للأصل، الذي هو تنظيم السمع والطاعة والجهاز السرّي وتطبيق الشريعة، ولو «تدريجياً»، أي الاخوان المسلمين؛ وهم اضطهِدوا ولوحقوا أمنياً، لكنهم دُلِّلوا ثقافياً وإعلامياً، الى حدّ انهم، هم أيضاً، بوجه من الأوجه، أبناء العقود السابقة.
«الرتوشات» الثورية التي أضافها المرشحان أبو الفتوح وصباحي الى صورتهما ولغتهما ولهجتهما وحركة جسدهما هي ابنة لحظتها، لحظة الحملة الانتخابية. أما الأساسي، فلا تكمن ثوريته، إلا بإلتقاط معنى اللحظة الجديدة التي تطلّ على مصر، وجني ما توفره من أدوار جديدة، ليست بالضرورة «ثورية»، ولا أصحابها يستحقون تلقائياً صفة «ثوار». كل ثورة فيها جديد، ولكن كل جديد ليس بالضرورة ثوري.
على كل حال ليسا وحدهما ابو الفتوح وصباحي، من ارتكب جنحة انتحال الصفة، أو الهوية الثورية. قبلهما الاخوان قاموا بما هو أخطر: تلاعبوا مع النظام في أيام الثورة الأولى والاخيرة، وبعد سقوطه، سارعوا الى احتلال الفراغ السلطوي، وبالغوا في تقدير حجم هذا الفراغ، وسقفه، وخطوطه العسكرية الحمراء. كل ذلك باسم «قوى الثورة»: الاخوان ايضا هم من «الثوار»… تبعاً للعشوائية التي ألمّت بالكلمة.
أحمد شفيق نفسه، في أحد خطاباته بين الدورتين، كان «ثوريا»، أيضاً… قال أشياء عن الدولة المدنية والمواطنة والحريات والظلامية… ما لم يقله مالك في الخمر. وذلك قبل ان تقفز شخصيات ومجموعات ثورية… الى الصفوف الاولى من مهرجانات سياسية مؤيدة لأحمد شفيق، هو الموصوف بالـ «الفلول». ليس هذا فحسب: بل ان هناك شخصيات ومجموعات ثورية أخرى، شدّت بيد محمد مرسي، مرشح الاخوان، ووقفت الى جانبه في الفعاليات والمهرجانات تأييداً ودعماً.
يمكننا القول، مع الانتخابات الرئاسية، أن ثوريي مصر توزّعوا ثلاث كتل: ثوريون مع العسكر أي مع أحمد شفيق، ثوريون ضد العسكر، أي مع محمد مرسي، ثم ثوريون لا هم مع العسكر ولا مع الاخوان؛ ينظرون الى الأول على انه «طاعون»، والى الثاني على انه «كوليرا».
كل هذا والثوار صاروا مثل بقرة سقطت، يحلو للجميع التنكيل بهم، عبر «نقد» لم يلبث ان اصبح خشبياً. كأن هناك أوقات مناسبة للنقد، وأوقات لا. الآن حان للجميع القول بأن الثوار كانوا على درجة عالية من التشرذم، أسسوا فوق المئة حزب ومجموعة، أضاعوا أصواتهم بين ثلاث كتل كلها «ثورية»… ونهاية المعزوفة، مثل بدايتها، ضرورة توحيد القوى الثورية. بعد التشرذم والتبعثر، يأتي «نقد» الهامشية والتخبّط السياسي، وغياب الأجندات والخطوات المنظمة. ثم «نقد» الإرادوية والنشاطية، والأهم من كل ذلك: الحماسة الفائضة، غازية العقل، فاقدة البوصلة. كل هذا قيل وكُتب، ومكتوب له المزيد، مع توزّع الثوار على المحاور الثلاث، العسكري والاخواني وخارجهما.
نحن سنفترض هنا بأن كان هناك، قبل هذا التوزّع، شيىء قريب الى العقل الجمعي الثوري، كان في بدايات الثورة حاد البصيرة، وفقد مع الوقت، خلال السنة والنيف التي اعقبتها، شيئا منها، أي البصيرة. عوامل كثيرة ساهمت في هذا التقلص الحاد لقدرة النظر والتبصّر، لا مجال هنا للتوقف إلا عند واحدة منها، قد لا تكون الأهم، ولكنها بالتأكيد ألأسطع حضورا: ونقصد هنا النجومية الحادة التي أصابت الثوار، فانبهر نظرهم، ولم يعودوا يرون إلا الأضواء. وهذه الأضواء لم تساعدهم أبدا على فهم ما هم عليه من واقع مرير. من انهم، إن لم ينضموا الى واحد من محاور الصراع الدائر اثناء الرئاسية، أي العسكر والاخوان، فانهم خارج لعبة السلطة. ليس لهم دور بصفتهم ثوارا في أي واحد منها، اللهم إلا بالإلتحاق المتأخر، كما حصل مع ثوريي شفيق ومرسي.
أي واحد من بين هؤلاء الثلاثة، «الإخوان» أو العسكر أو خارجهما، يملك الشرعية الثورية؟ والتي سوف يكثر الحديث عنها في المقبل من الايام. وسوف يكون هناك جواب ونقاش… من يملك الشرعية الثورية؟ ماذا يعني، من يكون ثوريا؟ من هو الثوري، في ظل هذه المعطيات الجديدة؟
هذه ليست أبسط الاسئلة التي سوف تطرح على الثورة، بعد استتباب التوازن بين العسكر والاخوان، والشروع في المرحلة الانتقالية الثانية من الثورة، مرحلة ضبط الصراع بينهما، بفوز الإخواني محمد مرسي بمنصب الرئاسة. أسئلة أخرى تطل من قريب: هل كان كل هذا حتمياً؟ أي أن تفضي الثورة الى غير مبتغاها؟ أن تتحول صفة الثوري الى مجرد رأسمال رمزي، يخدم تطلعات لنيل شرعية أو جاه؟
ثم، ان نكون مقبلين على ثورة مضادة، تتمحور حول سؤال قوامه: أي أولوية نتبنى؟ أولوية إنقاذ مصر؟ أم أولوية إنقاذ الثورة؟ وبما ان ثوريين كُثر منضوون تحت أحد الجناحين، فان الإجابة الآتية من عندهم تبرز حجة التمهل والتعقل وعدم الذهاب نحو التهلكة. وهم قد يتردّدون في الإجابة على هذا السؤال، لأنه يفترض ضمناً بأن هناك تناقض بين الثورة وبين مصلحة مصر العليا. نعود أثناءها الى حفلة تعريف وإعادة تعريف لمعنى الثورة والثوار.
الى إعادة التعريف، سوف تبرز في الانتقالية اللاحقة الحاجة الى إعادة قراءة الثورة نفسها. من يتذكر الدهشة العارمة التي أثارتها في أيامها وأشهرها الأولى، سوف يحتاج الى زيارة أخرى لتلك الأيام. الفضول الذي انصب على الولادة السحرية لهذه الثورة، على الثوار الأشد سحراً، أُصيب بالقِدَم المبكّر. الفضول نفسه، وجهته، موضوعه، زاويته، علينا تغييرها الآن لو أردنا لقراءة ثانية إضافية ان تثمر.
هل كان يمكن للثوار ان يتوحدوا؟ هل مآل ثورتهم حتمي، بناء على ما يملكون من طاقات ومصالح وشبكات؟ هل تشرذمهم مجرد أنوات متضخمة؟ أم ربما العكس، أي انعدام رؤية عميقة هو الذي سمح لهذه الأنوات بالتضخم؟ واذا كان هناك من رؤية، هل هي للإكتشاف أم الاختراع؟
ملاحظة: كل هذا القلق لا يلغي الإنجاز الثوري الأكبر، وقوامه صعود القوى المحظورة الاسلامية الى خشبة السلطة السياسية، وخوضها صراعيا شبه ندّي مع العسكر، بعدما هيمنت هذه القوى لعقود على خشبة المسرح الخلفي، الثقافي خصوصا والاجتماعي والاعلامي.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
المستقبل