الحب والثورة يفترقان عن يومياتنا وعادياتنا الجارية. كلاهما إنفجار، يلقي بشظاياه على الدوائر التي من حولهما. فتولد القصة. الحب والثورة، إن ينجحا بشيء، فبخلق أحداث لا تنتهي، هي الموضوعات المفضلة للكتابة والإبداع الفني، أيضاً مادة خصبة للمخيلة البشرية، يزوّدانها بالأحداث والأوضاع والشخصيات الجديدة، بالأسئلة والحيرة والشك والحماسة، يحثنها على صياغة معانٍ، على إختراع قوانين، على تفسير فوضاهما، كانهما تحدٍّ مفاجىء للعقل والعواطف.
الحب والثورة يتداخلان أيضاً. أقوى قصص الحب هي تلك التي تشهدها الثورات، أو تكون في صلب مجرياتها. في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، كانت بيروت تضجّ بأبناء الثورة الفلسطينية وأنصارهم اللبنانيين «الوطنيين»، الحالمين بإستعادة فلسطين عن طريق حرب التحرير الشعبية؛ وهي طريق قلبت بنيان ومعايير المدينة، وجعلت من «الفدائي» الفلسطيني ونصيره اللبناني، أصحاب جاذبية لافتة، كانت مادة خصبة لقصص غرام، أشهرها، لقاء القائد الفلسطيني أبو حسن سلامة، مسؤول أمن الـ17 التابع للثورة الفلسطينية، باللبنانية جورجينا رزق، ملكة جمال الكون، عامها. كم من مناضلة مؤمنة بالقضية تزوجت واحداً من هؤلاء الثوار، أو مناصيرهم من اللبنانيين، واكتشفت بعد حين انها في الواقع تزوجت القضية التي كان ثائرا من أجلها… الكيمياء الغرامية هذه انسحبت ايضاً على المصريين أيام عبد الناصر، وطريقه الثوري ضد الاستعمار واسرائيل. كان الشاب المصري بنظر اليافعة اللبنانية التي نشأت في بيئة متفاعلة مع ثورة عبد الناصر، أقصى ما تتمناه نفسها، أبهى فرسانها.
طبعاً تختلف الثورة عن الحب بأشياء. أهمها، المدة الزمنية: الاولى، الثورة، صاحبة زمن ممتد، تقاس تطوراتها وثمراتها بالسنوات والعقود، وأحيانا القرون. أما الحب، فيكون «خالداً» اذا كان غير سعيد، أو من طرف واحد. ولا تتعدى سنواته العشرة إذا تحقّق، وخُتم باللقاء. فنحن هنا لا نتحدث عن الحب العادي، الذي يلتقي بموجبه إثنان بهدوء ومن دون إلتباسات أو رجّات أو تخبّطات… إنما عن الحب- الشغف، مطلق الاستحواذ على الحواس والعواطف، على الوجود بأسره. يلتقي إثنان في الشغف، ليعودا ويفترقا، بسبب الوقت أيضا؛ الوقت عدو الحب-الشغف، كلما مرّت ساعاته، أيامه، كلما خاب وبهت وبلغ حدود نهايته.
الوقت نفسه هذا هو صديق الثورة. لا تحتاج الثورة إلا للوقت، وكل تسرّع في تجسيد رؤاها يفضي الى عكسها، الى ما يناهضها ويعيدها الى العهد السابق عليها. ولكن يبقى ان الشغف نقطة إشتراك بين الاثنين، الثورة والحب.
إضافة الى الوقت، فرق بسيط في نوعية الدوائر التي ينال منها الاثنان، الحب والثورة؛ والفرق الأقل بساطة هو القائم بين كتابة الرواية وكتابة التاريخ. الكتابة الاولى الروائية، غالبية محاورها هي الدائرة الضيقة من العائلة او «الكوبل» الواحد، وما هو خارجها مجرّد سياقات، تضيق وتتّسع، ولكنها تبقى ضمن «حدودها». هي ليست مثل الكتابة الثانية، التاريخية، الرحبة، والتي غالباً ما تفتح أبواباً جديدة. كل ذلك، من دون استبعاد الروايات التاريخية ولا الروايات الخارجة عن نطاق العشق، ولا طبعاً التأريخ الجديد للدوائر الخاصة.
ما الذي يجمع الحب بالثورة اذن؟
الاثنان تسبقهما حالة جهوزية نفسية وروحية. أصحابهما من ذوي المزاج الرومنطيقي الذي يجد في كليهما أو أحدهما لذة لروحه. الثورة والحب زلزال لا يعنيه شيئا أن تكون معه أو ضده؛ زلزال لا تدخل اراداتنا فيه الا لتجعله أكثر قابلية للتحقّق، وأكثر عنفاً، أحياناً. فإرادتنا لا تفهم هذه الحالة بعبارات العقلانية، إنما بنوع من المزاج، ناجم عن كيمياء سحرية أخرى، فيها من الغواية قدر ما فيها من المجازفة والخطر. الثائر والعاشق كائنان منصهران بما يخرج عنهما، الأول بثورته والثاني بحبيبه. منصهران بلذة وجدانية عميقة، تضع العقل جانباً، تشعر أكثر مما تدرك، تحدس أكثر مما تحلّل.
لحظة العشق القصوى ولحظة الثورة القصوى هما مثل توق كوني عارم، خفّة وجود، نسيان الوجود، إنسياب مع اشيائه، مثل الطفولة أو الحرية أوالصدق. يمشي العاشق والثوري فوق حِمَمْ سائلة لبركان يرمي الطاقات، ويخلق القدرة على جعل الأشياء تحدث، وبوتيرة جنونية، مستحبة وجذابة. لذلك تلمتع عينا العاشق والثائر ويسكن نظراته حزن جميل، رغم الأمل، أو ربما بسبب ما سوف يلي الأمل (هذه نظرة خلّدها الشاب الوسيم تشي غيفارا، صاحب النظرة الذابلة حزناً وشغفاً، الذي أوقع كل المراهقات الثائرات بغرامه).
الحزن يرافق العاشق والثائر، ولا يحرمه من الضحك والرقص واللعب. الثورات مهرجانات من هذه الاشياء الثلاث. كل على طريقته. وكذلك العشاق الذين يضحكون لأشياء لا تضحك غيرهم، كالبُلهاء. وهذه ضحكة تختلف عن تلك التي يبتدع الثائر أنماطها، ولكنها تصبح، مع الوقت، بلهاء هي أيضاً. السبب في هذا الاختلاف؟ ليس معلوماً، أو ربما يصبح هكذا بعد حين… اما الرقص، تلك الإنطلاقة التي توسّع فضاء الجسد عبر الموسيقى، فهو التعبير الكوريغرافي الفني عن وضعية الثائر ووضعية العاشق. فالرقص مناداة لقوة الكون، مناجاة روحية له؛ والاثنان، العاشق والثائر، يرسمان، بلغة أخرى، تدفّق روحهما، وانجرافها نحو مجهول مضيء. وهما بذلك في أسعد لحظات حياتهما، تغمرهما بهجة وجنون ورغبة عارمة بالمجازفة، يحلّقان بالكلمات نفسها، «عشنا وشفنا»، «بعثنا من جديد»، «حياة أخرى«…
وفي غمرة هذا الاستسلام للشغف، تمر غيمة سوداء فوقهما، فينتباهما الهلع، من ان سعادتهما العظيمة قد يكون ثمنها فادحاً: فالقدر يتربص، وليس مضموناً إن كان يعطي من يد، ولا ينتزع من أخرى. هلع من ثمن غالٍ قد يبلوهما القدر بدفعه: مثل موت أو دمار.
بعدما يلتحم العاشق أو الثائر بموضوع شغفه، تبدأ مرحلة جديدة، إشاراتها كلها متناقضة، لمن أراد القراءة في كتاب الواقع: العاشق والثائر لا يريا غير دنيا أخرى تنتظرهما خلف الحواجز الحائلة دون تحقق غرضهما. وكلما اشتدت الاشارات وضوحاً، السلبية منها خصوصاً، يسود النكران: لا ليست ثورة، تلك التي تضطرب، تتشوش، تفقد بوصلتها. أما في الحب: لا ليس هو بالضبط الرجل (أو المرأة) الذي حلمت به (بها). فندخل في طور المزايدة أو الاستنزاف أو مجرد المعمعة. وساعتها يكون العاشق أو الثائر في أشد حالاته تقلباً. لا تعود النشوة هي المحقة، بل هي حجاب يحول دون فهم تلك الاشارات. تبقى النشوة، المضللة، ويبزغ قلق صامت، يعكر الصفو، ولكنه لا يدفع نحو أي شيء غير النكران. في الحلم فقط يرى الثائر والعاشق نفسيهما أمام المرآة: ماذا لو كان كل هذا سراب؟ ماذا لو لم تكن ثورة؟ لم يكن حبيباً؟ هكذا تكون بداية النهاية، فتمضي «الاهداف» في نهر البشر، بشرّهم وخيرهم، يصيب الأول الثورة والعشق بسمومه ويهدد بنيانه، الهش أصلاً. ثم شيئا فشيئا تبرز الكلمة الحتمية: الخيانة. تأتي الخيانة، الوهمية أو الواقعية، في خضم صراع السلطة، يلي عادة مرحلة تحقيق الثورة لأهم أهدافها، أو مرحلة التقاء العاشقين الآمن. ليس الحق على أحد في هذه الواقعة. الصراع على السلطة، في حالة الثورة، هو مزيج من إدارة قوى جديدة للسلطة، تلك التي قادت الثورة او ركبتها أو تريد مصادرتها أو تهميشها، ومن امتحان لقدرة كل قوة على الهيمنة، وفرض سلطة جديدة، باسم الثورة، او الثورة المضادة. الأمل هنا في الديمومة، في استعادة الشعلة، مرة واثنين وثلاث… حتى المئة ربما. انظر الى كل الثورات.
أما في حالة ما بعد العشق، فان الصراع على السلطة أقل شفافية، أضعف لساناً، أعمق توغّلاً. أرثوذكسية الغرام تضع هياكل من التابوهات، حارسها الدائم «أحبك…»، وهي تابوهات لا تسمح بصراحة الصراع كما في الثورة. لذلك، يدور الصراع خلفها بعبارات مغمغمة، حول النرجسيات، الرابحة والخاسرة، حول الصورة أمام الناس، حول الاحتكار، حول الوطأة، حول اقتصاد اللذة… فتكون الخيانة بداهة، التي سرعان ما تحول العشق إما استمراراً لما كان كتلة من لَهَب، «كان» فقط ولم يبقَ… يتسم بالرتابة والخديعة وتبادل الأقنعة، فيموت الحب ميتة طبيعية، أو تكون قطيعة. وفي كلا الحالتين، تنتهي قصة العشق في النكران الروتيني أو صرخة الجنون.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
[المستقبل
->http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=79152
]