منذ ان انتفض العماد ميشال عون، في العام 1989، على سلطة الوصاية السورية، ورغم الانقسام وخطوط التماس الطائفية خلال الحرب، وجد صدى لانتفاضاته في اوساط مسلمة. بل ارتكزت إنتفاضته على كونها تتجاوز الانقسامات التي مثلتها ميليشيات الحرب، والتيار الشعبي الذي عبر عنه في ذلك الحين لم يكن تيارا مسيحيا بل تجاوز في امتداده الدائرة المسيحية الوازنة، الى مساحات اسلامية من اقاصي عكار الى اقاصي الجنوب، ومن بيروت الغربية الى البقاع وبالجبل. وساهم في تحفيز التفاعل معه تطلع لبناني عام للخلاص من الحرب وميليشياتها من جهة، وايمان لبناني صادق بضرورة التخلص من الوصاية السورية. وتعاطف الكثيرون معه لا لكونه عسكريا بل لكونه نجح باستنهاض الوطنية اللبنانية في نفوس لبنانيين، بمعزل عن انتماءاتهم السياسية او الطائفية. ولم يكن شهداء الجيش، في تلك المواجهات التي خاضها او التي خيضت ضده، من المسيحيين، بل تنوعت انتماءاتهم الطائفية والمناطقية بقدر ما كان يدغدغ في خطابه عقول ووجدان فئات واسعة من اللبنانيين.
وعلى رغم التحالف العربي والدولي والمحلي الذي افضى الى انكفاء التيار ميدانيا، ونفي الجنرال الى فرنسا، والى اعتقالات طالت مئات الضباط والمناصرين، بقيت صورة الجنرال عون حاضرة رغم سطوة الوصاية السورية، والتحالف الذي نشأ داخل سلطة الطائف بدعم خارجي ومحلي . وسبب حضور هذه الظاهرة، الى جانب سمتها السيادية، كان انتشارها وحضورها في دوائر لبنانية متنوعة مناطقيا وطائفيا. إذ لم يكن الجنرال عون، لدى المسلمين عموما، زعيما مسيحيا او من نماذج زعماء الميليشيات، او رمزا من رموز ما كان يسمى “المارونية السياسية” خلال الحرب.
وطيلة وجوده في فرنسا استمر حضور انصاره في بيروت بتفاوت لا يخل بتفاعل متزايد لاوساط لبنانية معه. ومع خوضه، مطالع العقد الماضي، معركة إخراج الجيش السوري من لبنان محليا وخارجيا، وصولا الى استصدار قانون محاسبة سورية في الكونغرس الاميركي، والقرار الدولي رقم 1559، كان التيار الوطني الحر يتميز عن غيره من الأحزاب.
لكن منذ عودته إلى لبنان، بدا أنّ الكثير راح يتغيّر. فور وصوله إصطدم عون بحلفائه في 14 آذار واصطدموا به. سريعا دافع ووقف ضد اتهام سوريا باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وبعدها إنخرط في “تفاهم” مع “حزب الله”، حين كان الشارع المسيحي يغرق في الخوف من الحزب وسلاحه. ثم دخل في الحكومة، وما هي إلا أشهر حتى شارك في إسقاط الحكومة. ثم خاض معركة للحصول على ثلث المقاعد في الحكومة الجديدة. وخلال هذا وذاك كان عون يخوض أشرس المعارك تارة لتوزير صهره جبران باسيل وطورا للحصول له على الحقيبة “الأفضل”.
ومنذ دخول عون في الحكومة الجديدة بدأت روائح غريبة تفوح من بعض الوزارات، خصوصا وزارة الطاقة، التي أصرّ وهدّد وتوعّد، إلى أن نال لها مليار ومئتا مليون دولارا لحلّ مشكلة الكهرباء، وسط مخاوف الحلفاء وتكهنات الخصوم!
وبين “معارك الصهر”، ومعارك جنّد عون خلالها نواب الأمة ووزراء الدولة للدفاع عن عميل معترف بعمالته عو العميد المتقاعد فايز كرم، كان عون يغرق نفسه أكثر فأكثر في صورة زعيم مسيحي. ولا يخفى على أحد أنّ العشرات من الكوادر الشيعية والسنية والدرزية، من الجنوب إلى طرابلس مرورا بالجبل، إنسحبت من “التيار الوطني الحرّ”، بعدما كانت منتسبة بالتوقيع الرسمي.
خسر الجنرال في ستة أعوام ما راكمه من تعاطف خلال العقود الثلاثة الفائتة. ربما كان ذلك ضروريا، لأنّ صرف التعاطف بالتركيبة السياسية اللبنانية الحالية لا يتمّ إلا من خلال طائفة ومقاعد نيابية ووزارية محدّدة. ربما اضطرّ، لكنّ الناظر إلى تكتل “التغيير والإصلاح” اليوم، الذي هو بعيد جدا عن “التيار الوطني الحرّ”، كما عرفناه في التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، يرى جيدا أنّ عون اليوم ليس عون 1989 ولا عون 2005 الذي أحبّه اللبنانيون مدافعا عن السيادة والإستقلال.
عون الجديد هو حليف النظام السوري الذي قمع المسيحيين ونكل بهم حلفاؤه على إسفلت بيروت ذات آب من العام 2001، وهو حليف النظام الذي يسيل دماء شعبه، في اللحظة التي تسيل فيها الدماء.
يبدو عون اليوم نسخة عادية من “زعيم طائفي لبناني”. تماما مثل الرئيس نبيه بري أو النائب وليد جنبلاط، بعدما كان يبشر بدماء مختلفة في لبنان. ويبدو تيّاره قابلا للتفكّك تماما كما هي حركة “أمل”، بعد عقود من الزبائنية والسياسة القائمة على الخدمات دون الأفكار والمبادىء.
alyalamine@gmail.com
* كاتب لبناني
البلد