ما أن قتل الاميركيون بن لادن حتى انصرف الاعلام الغربي، بصحافييه ومثقفيه، الى التأكيد تلو الآخر بأن مرحلة الارهاب انقضت الى غير رجعة، كما الى تبشيرنا بأن الاسلام «الوسطي»، هو مستقبل العالم «الاسلامي»، العربي خصوصاً، بعد ثوراته، الجارية منها والمنتصرة، على وجه أخصّ.
هل هذا اليقين الغربي هو الذي يعزّز إيمان بعض العرب بأن هذه الثورات في بلدانهم، انما تحصل «تحت المظلّة الاميركية»؟ إن لم نقل بـ»مؤامرة امبريالية صهيونية محكمة»؟ خصوصا اذا ما اقترن هذا اليقين بتفاصيل القبض على بن لادن وقتله وعدم نشر صورته ميتا؟ ربما، وإن كان هذا النوع من الإيمان المؤامراتي لا يحتاج الى براهين، لشدّة عناده.
ولكن ما يهمّ هنا هو ان مساراً لا بأس به خطاه الغرب، واميركا تقوده، من الحرب «الصليبية» التي خاضها جورج بوش ضد أفغانستان والعراق وما جرّته هذه الحرب من حروب اخرى واسلاموفوبيا وعنصرية وعداوة «حضارية»، «صراع الحضارات» الذائع… وبين الإقرار الغربي الاميركي بأن إسلاما «معتدلا» قد يكوم الآن هو المرشح المقبول لتبوّء السلطة بعد سقوط الديكاتوريات، أو اقتراب سقوطها: من إسلام الفزّاعة المقنعة، الى الاسلام «الوسطي… الأقل تطرفاً»، المرشح لقيادة مرحلة ما بعد الديكتاتوريات.
أوباما افتتح هذا المسار بخطابه التاريخي في القاهرة في حزيران من العام 2009 متوجها الى «العالم الاسلامي». الود البالغ، الاعتراف بالحقوق، مدّ اليد…. ذلك أنهى العداوة، اللفظية على الأقل. ألغى من القاموس الاميركي التعبيرات العدوانية التي راجت في عهد جروج بوش تجاه العالم العربي، ولكنه أبقى على الهوية الدينية لهذا العالم، قاطعاً بذلك، وبصورة نهائية، مع كل التسميات السابقة: العالم الثالث، الجنوبي من هذا العالم، العالم العربي؛ تسميات اصبحت من التاريخ…
هل العالم العربي هو المسؤول عن تديين هويته؟ ربما. ولكن أوباما لم يبد اهتماما مشابهاً الا الى «الامة الايرانية» قبل ذلك بثلاثة أشهر: آذار 2009 وجه رسالة الى الشعب الايراني بمناسبة عيد النوروز، وهو عيد غير اسلامي. هل كان يعني ذلك بأن هناك أمة اسلامية تمتد من اندونيسيا وحتى المغرب، ثم أمة إيرانية في ايران؟ أو انه كان يعني، بهذه «اللفْتة» بأن الاسلام الذي يعترف به هو الاسلام غير الشيعي؟ أو بالأحرى الاسلامية السياسية الشيعية؟
مهما يكن من أمر، فان الصفة الاسلامية لعالمنا قد تكرّست قبل ان ينقشع الغبار عن «الفزاعة» الاسلامية بفعل الثورات. وها نحن مقبلون، بعد الثورات، على سياسة غربية بدأت تتّضح، وقوامها: ان غزو الاسلام السياسي لأنظمتنا الديموقراطية وتسلّله الى نسيج مجتمعاتنا لن يتوقفا بالحرب على الاسلام، بل بتدبّر أمر الاسلام السياسي، بحيث نقبل عليه، نقبله، نقرّ بأهليته للحكم، نطوعه لمصلحتنا، نشجعه على استلام الحكم في بلاده؛ سيما وان المجتمعات العربية قد تأسلمت أثناء عقود الاستبداد… وقد شبّه أحد الكتاب (نجيب جورج عوض) إعادة توطين الغرب للاسلام السياسي، بالقرار البريطاني في أوائل القرن الماضي، والقاضي بتشجيع اليهود على تأسيس دولتهم في فلسطين وكان غرضه آنذاك «إبعاد شبح اليهود وتأثيرهم على أوروبا».
والواضح ان الحجة الغربية للقبول بالاسلام السياسي والتفاعل معه هو ذاك التمييز الذي يقيمه بين الاسلامات: الاسلام «الجهادي» والاسلام «السلفي» والاسلام «المعتدل» أو «الوسطي». وهو، أي الغرب، يلحّ في هذه الآونة على التمييز، والتبسيط: «جهادي» و»سلفي». الأول عنيف والثاني ظلامي، والاثنان يجهران بعداوتهما للغرب. يبقى الاسلام «المعتدل»، الذي يقبل بالانتخابات والتداول السلمي للسلطة ويجد دائما صيغا للتواؤم مع العصر ومع الديموقراطية الخ. والاسلام «المعتدل» يتمثل بالإخوان المسلمين، الذين «صمدوا» كتنظيمات في ظل حكم الطواغيت العربية.
تلك هي الحجج التي استطاع الغرب ان يصيغها في عجلة تخطيطه الاستراتيجي لمآل بلداننا بعد ظفر ثوراتها، المتحقّق منها والمحتمل. وفي العجلة هذه لم يلتفت الى ان فكر الاخوان، «المعتدل»، هو منبع الفكر «السلفي» و»الجهادي»؛ وان الاسلامية كلها، وليس فقط الاخوان، غنمت من عصور الديكتاتوريات أسلمة شبه تامة للمجتمعات؛ أسلمة كانت تتم على نفس ايقاع الاضطهاد السياسي والأمني للاسلاميين كافة، والتلاعب الأمني بهم آن، وعلى يد من؟ أشد هذه الديكتاتوريات «علْمانيةً». لم يبق مكان للاجتماع السياسي الا المساجد. ومشجّعو الاسلامية «المعتدلة» لم يلتفتوا أيضا الى ان القمع الذي تعرّضت له تلك المجتمعات هو الذي جعلها تذعن لمقولات الاسلامية السياسية الداعية الى «طاعة ولي الأمر»، المناقضة لأبسط قواعد الديموقراطية.
ولكن الاخوان المسلمين بدورهم هم على نفس القدر من «البراغماتية». في مصر وتونس، حيث يحتمل فوزهم بمقاعد لا بأس بها، يضاعفون من النظر الى المرآة الغربية الديموقراطية: اخوان مصر لا يتوقفون عن الترداد، فوق ايمانهم بالانتخابات النزيهة، انهم مع «الدولة المدنية». وحين يضطرون الى الشرح، يجيبون، بصوت أقل ارتفاعاً، نعم «مدنية» كما كانت دولة الرسول، وذات مرجعية دينية الخ. اما اخوان تونس، فزعيمهم، راشد الغنوشي، يعلن في إحدى محاضراته في باريس انه مؤيد للنظرية الداروينية التي تقول، بنظره، بوجوب التطور… فيما أنصاره في الداخل التونسي يخوضون المعارك والندوات من اجل إلغاء قوانين الاحوال الشخصية المتقدم. عينة بسيطة مما قد تهيئه لنا نتائج الانتخابات المقبلة في البلدين.
والاثنان، الغرب والاسلاميون «المعتدلون»، يعاملون الافكار وكأنها بضائع، لا تحتاج لغير التسويق: عملية علاقات عامة، معقّدة، ولكن جذابة، ترمي من جانب الغرب الى «تأمين» مستقبل المنطقة، بعد الثورات، الى أطراف الأمر الواقع، بتزيينها ديموقراطيا وتعدديا؛ فيما تردّ الاسلامية السياسية على التحية بأفضل منها، بأن تجعلنا نعتقد، وبسرعة، بأن هذه الصورة أصيلة، غير متوهّمة.
ولتكتمل نقاط التسويق، يُدخل «النموذج التركي»، الاسلامي، «الوسطي»، «المعتدل»، الديموقراطي، المزدهر اقتصاديا الخ. فيجري النموذج بسيولة مدهشة، ويعتز الاتراك بالانبهار العالمي الآتي من الشرق والغرب. هكذا، سمعنا اثناء هذه الثورات لازمة «النموذج التركي» بقدر ما سمعنا عن الانتخابات في العصر العربي الجديد… بمعنى آخر، مسموح لنا في عصر الثورات هذا ان لا نفكر بغير الجاهز من النماذج. وأية نماذج! هكذا يبتعد عن اوروبا تجرّع كأس انضمام تركيا المرّ، بالضبط كما يتم إبعاد الاسلام السياسي العربي عن الغرب بواسطة تبني «اسلام» معتدل»… او هكذا يُعتقد.
الآن: ما يفعله الاميركيون أو الاوروبيون أو الاتراك دافعه مصالحهم القومية والاستراتيجية: الأوّلون، أميركا وأوروبا، يأخذوننا على قدّ عقولنا، أو بالأحرى، ما بلغته هذه العقول من أسلمة على يد الاستبداد. أما الاتراك فيوسعون بذلك هيمنتهم الدينية-السياسية على عالم كانوا يحكمونه قبل أقل من قرن، بعدما اخترقه الاسلام الايراني، وتولدت منه بؤره الاسلامية «الثورية»، الأقرب الى «الجهادية».
هذه هي مصالحهم: أما المجتمعات العربية، فهل تلتقي مع كل هذه المصالح؟ هل هي مستعدة لهذا «البديل»؟ هل البدائل الجاهزة هي المطلوبة الآن أمام التغيرات القادمة؟ الجواب في مقال لياسين الحاج صالح (الحياة 18 أيار 2011) يقول فيه: «إن التغيير هو ما ينتج البدائل، وليست البدائل الجاهزة هي ما يُحدث التغيير«.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل