من بعد أزمتها السياسية والدبلوماسية مع جارتها الآسيوية الكبرى (الصين) في الشهر الماضي حول السيادة على جزر سينكاكو/ديايو، دخلت طوكيو مؤخرا في نزاع مماثل مع قوة عالمية أخرى، يوروآسيوية هذه المرة ممثلة في الإتحاد الروسي الذي ينازعها السيادة منذ قرون طويلة على جزر الكوريل.
والأخيرة، لمن لم يسمع بها، أرخبيل بركاني مكون من 56 جزيرة صغيرة تمتد على مسافة 1300 كيلومتر إلى الشمال الشرقي من مدينة “هوكايدو” اليابانية، وحتى مدينة “كامتشاتكا” الروسية في أقصى شمال المحيط الباسيفيكي. وعلى حين تسيطر موسكو سيطرة تامة على معظم جزر الأرخبيل منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، فإن طوكيو تنازعها السيادة على الجزر الأربع الرئيسية في أقصى الجنوب، زاعمة أنها جزء لا يتجزأ من ترابها الوطني، بل وتطلق عليها وعلى باقي أخواتها إسما مختلفا هو “تشيشيما”.
والإسم الأخير يعني باللغة اليابانية “أرخبيل الألف جزيرة”، فيما إسم “الكوريل” مستمد من لفظة “كور” التي تعني الرجل في لغة سكانها الأصليين من شعب الـ “الأينو”.
تاريخيا، بدأ النزاع بين البلدين على هذا الأرخبيل في مطلع القرن التاسع عشر، حينما تنافست اليابان مع روسيا القيصرية حول السيادة عليه. لكن إنتصار اليابانيين في الحرب الروسية – اليابانية التي دارت رحاها ما بين عامي 1904 و1905 سمح لهم بالسيطرة التامة على جزر الأرخبيل منذ ذلك التاريخ وحتى صدور قرارات “موتمر بوتسدام” في أعقاب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. تلك القرارات التي سمحت لموسكو بإستعادة الجزر المذكورة وضمها إلى أراضيها الشاسعة في آسيا.
والمعروف للمتابعين أن طوكيو إلتزمت الصمت طوال حقبة الحرب الباردة، بمعنى أنها لم تثر قضية أحقيتها بالسيادة – على الأقل – على الجزر الأربعة الأقرب إلى أراضيها، خصوصا في ضؤ ما حدث في عام 1956 حينما وقعت طوكيو وموسكو إتفاقية تقاسمتا بموجبها الجزر الأربع الجنوبية من أرخبيل الكوريل (جزيرتان لكل منهما). لكن طوكيو عادت إلى المطالبة بكامل الأرخبيل بمجرد إنهيار وتفكك الإتحاد السوفيتي في أوائل تسعينات القرن المنصرم.
والجدير بالذكر أن سياسة الحكومات اليابانية المتعاقبة في أعقاب سقوط الإتحاد السوفيتي، ودخول خليفته (روسيا الإتحادية) في أزمات إقتصادية وفوضى سياسية، وخصوصا في عهد الرئيس الروسي الأسبق “بوريس يلتسين” إرتكزت على إغراء موسكو بالمساعدات والقروض الإقتصادية، والإستثمارات المشتركة المتنوعة، وذلك على أمل أن تستجيب الأخيرة لإيجاد حل ودي معها حول الأرخبيل المذكور.
غير أن تحسن أوضاع روسيا الإتحادية إقتصاديا وعسكريا في ظل خلفاء “يلتسين”، جعلها في غنى عن علاقات إقتصادية متميزة مع طوكيو، وبالتالي صارت أكثر تشددا فيما يتعلق بالسيادة على الجزر المتنازع عليها، خصوصا في ظل معرفتها بحاجة اليابانيين لموارد الطاقة الروسية.
أما اليابان التي أكدت بعد هذا التطور، ولا سيما في عام 1993 ، تمسكها بإتفاقية عام 1956 فإنها عادت في الأسبوعين الماضيين إلى لغة يستشف منها أنها لا تزال متمسكة بسيادتها على الأرخبيل التي تطلق عليه إسم “الآراضي الشمالية. فقد وصف رئيس الحكومة اليابانية “ناوتو كان” قيام الرئيس الروسي “ديمتري ميدفيديف” بزيارة إلى إحدى جزر الكوريل، (تحديدا جزيرة”كوناشير” بحسب تسميتها الروسية، و”كوناشيري” بحسب إسمها الياباني) بالعمل الإستفزازي الذي سوف يعيق علاقات البلدين ويحول دون تطورها. وعلى إثر هذا التعليق حول زيارة “ميدفيديف” (الأولى لزعيم روسي إلى أراضي الأرخبيل منذ إعلان اليابان إستسلامها في أربعينات القرن المنصرم) إستدعت الخارجية اليابانية السفير الروسي في طوكيو، وسلمته مذكرة إحتجاج، فيما رد الروس على لسان وزير خارجيتهم “سيرغي لافروف” بإستهجان موقف اليابانيين من قيام زعيم دولة صديقة بزيارة أراضي بلاده، خصوصا في هذا الوقت الذي ينتظر فيه زيارة “ميدفيديف” إلى اليابان للمشاركة في أعمال “منتدى التعاون في آسيا والمحيط الباسيفيكي” المعروف إختصارا بإسم “أبيك”، والمقرر إنعقاده في “يوكوهاما” في منتصف الشهر الجاري.
أما إقتصاديا، فتنبع أهمية جزر الكوريل من وجود العديد من المعادن في باطن أراضيها ومياهها، إضافة إلى ثروتها الهائلة من أسماك السردين و السالمون، وبعض الحيوانات التي يستفاد من لحومها وعظامها وفروها.
يعتقد الكثير من المراقبين أن الأزمتين الدبلوماسيتين اللتين خاضتهما طوكيو مؤخرا مع الصين وروسيا الإتحادية، تعكسان مدى إفتقار الحكومة اليابانية الحالية بقيادة “الحزب الديمقراطي الياباني” إلى الخبرة في مجال السياسة الخارجية وهندسة العلاقات الدبلوماسية، مضيفين أنه لو كانت السلطة في اليابان اليوم بيد حزبها التاريخي الكبير”الحزب الليبرالي الحر” الذي حكمها – دون إنقطاع إلا لفترة محدودة جدا – منذ هزيمتها في الحرب الكونية الثانية وحتى بداية العام الجاري، لما تصرفت طوكيو بذلك الشكل.
فرموز الحزب الليبرالي الحر من الساسة المخضرمين والمحنكين، ما كانوا بحاجة لتحسين صورتهم، أو تقوية نفوذهم، أو إستعراض عضلاتهم أمام الشعب الياباني عبر التسبب في أزمات سياسية مع الصين التي تعتبر الشريك التجاري الأول لليابان، ومع روسيا التي تجاوز حجم مبادلاتها مع اليابان في عام 2008 مبلغ 30 بليون دولار، بل مع الدولة التي يعتمد اليابانيون كثيرا عليها كجهة مصدرة للطاقة، وكسوق رائجة لبضائعم وتقنياتهم.
ولعل أفضل مثال على التفسير السابق الذي تبناه مراقبو الشأن الياباني، ما كتبته صحيفة “يوميوري شمبون” اليابانية واسعة الإنتشار من أن الفوضى التي تسود الدبلوماسية اليابانية في عهد حكومة “الحزب الديمقراطي” هي التي شجعت الرئيس الروسي على زيارة جزيرة “كوناشير”، وهي التي جعلت موسكو تتحدى، وتصعد، وتقول بأن رئيسها يعتزم زيارة المزيد من الجزر في أرخبيل الكوريل. وهذا يتطابق كثيرا مع رأي صحيفة يابانية أخرى هي “نيكاي شمبون” التي كتب رئيس تحريرها مقالا قال فيه “أنه من المؤكد أن موسكو إستغلت ثغرة في عمل الدبلوماسية اليابانية الحالي، بعد أدائها المشين في إدارة حادثة سفينة الصيد الصينية بالقرب من جزر سينكاكو/ ديايو”.
وتزامنت هذه التعليقات الصحفية السلبية حيال طريقة وأسلوب أداء الدبلوماسية اليابانية مع تطور آخر، يبدو أن حكومة الحزب الديمقراطي الحاكم في طوكيو تسرعت فيه، ونعني بذلك موقفها المتسرع الرافض لمقترح أمريكي بإستضافة محادثات ثنائية بين طوكيو وبكين، بمساعدة أمريكية، من أجل التشاور وتسهيل التوصل إلى إتفاقية يابانية – صينية حول جزر سينكاكو/ديايو، وذلك من أجل ضمان الأمن والإستقرار في منطقة المحيط الباسيفيكي.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com