حتى متى….
نعبد الصّنم بعد الصّنم
كأننا حُمْرُ النّعَمِ
حتى متى….
نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا
حتى متى…
ندّعي الصّدق والكذب شعارنا ودثارنا
حتى متى..
نستظل بشجرةٍ تقلص عنّا ظِلها
حتى متى
نبتلع السّمُوم و نظن أنَّ الشفاء فيها.
الصادق النيهوم
*
العزلة التي فرضها البدو على أنفسهم، بسبب إخيتيارهم الحُر لحياة الهمجية، والتي ترفض الإذعان لأي قانون أو شرعة تنظّم حياتهم، وتهذب شهواتهم البهيمية. إختيارهم للعيش وفق شرعة الصحراء التي تقوم على مبدأ البقاء للأقوى، هذه العزلة منعتهم من مواكبة التطور الإنساني، وعادت بهم إلي الوراء، إلى المراحل الأولى التي أعقبت ظهور الإنسان على ظهر هذا الكوكب. عاد البدوي إلي حياة الكهوف، حين التجأ الإنسان إليها في مراحل مبكرة من تاريخه، بسبب رعبه من العالم من حوله، وذلك قبل أن يستكمل ثقته بنفسه، وبالقدرات العظيمة التي أودعتها السماء فيه، والتي مكّنته من ترويض كل المخلوقات على الأرض، وجعلها تعمل لصالحه. اختار البدوي كهفاً أكثر إتساعاً من كهوف الإنسان القديم التي نحتها في الجبال،لكن كهف البدوي رغم اتساعه كان أكثر عزلة من كهوف الإنسان القديم.
جعل البدوي من الصحراء كهفه، وعاش فيها بعقلية إنسان الكهوف الذي يعتبر كل ما هو خارج كهفه عدواً يتربص به. ولذلك فهو لا يجد الأمان إلا داخل كهفه، ولا يغادره إلا مضطراً، ليهاجم من حوله، ولينتزع بالقوة قوته وقوت عياله، ليحفظ بقاءه.
عزلَ البدوي نفسه، واحتمى من العالم ببحر من الرمال والكثبان المتحركة، مما جعل خروجه من كهفه الرملي أو دخوله اليه متعذراً عليه هو ذاته، فما بالك بالاخرين؟ صار هو ذاته غير قادر على الخروج من كهفه الرملي إلا بمعونة دليل، له المقدرة على تقفي أثر الطير بأنفه. وحتى مع توافر ذاك الدليل، ظل خروجه وعودته الي كهفه مخاطرة قد تكلفه حياته. منعته عزلته هذه من التواصل مع الآخر وجعلت الآخر عاجرأً عن مساعدته. ومما رسخ هذه العزلة أن البدوي لم يكن يَعُدُ الوضع الذي يعيشه وضعاً شاذاً يجب الخُروج منه. بل، على العكس، فلقد عده نموذجا يفاخر به، ويتخذه مقياساً يقيّم على أساسه حياة الأمم الآخرى. والبدوي لم يتخلص من طريقة التفكير هذه حتى اليوم، بل إنه لم يحتفظ بمنهج تفكيره العقيم هذا لنفسه فقط. فأعطى منهجه هذا صبغة إلهية، وفرضه على الأمم التي تم تعريبها قسراً باسم الإسلام، مما أورثنا هذه الوضعيه التعيسة التي نعيشها اليوم.
شاءت السماء أن تتدارك هذا البدوي قبل أن ينقرض ويفنى داخل كهفه الرملي، فأنزلت إليه رسالة تتضمن وصايا تعينه في الخروج من عزلته، والالتحاق بركب الإنسان، أرادت السماء بهذه الرسالة أن تختصر عليه الطريق، وتنقله مباشرةً من الدرجة المتدنية من مراحل تطور الإنسان التي كان يعيشها، وتضعه على ذات الدرجة التي بلغها نظيره الإنسان من أبناء الأمم التي تعيش على اطراف كهفه الصحراوي.
كان ذلك المخلوق البدوي غارقاً في بدائيته، يعيش حياة هي أقرب إلي حياة البهائم. فكان على السماء أن تقود خطاه نحو التأنسن، كان عليها أن تبدأ معه من نقطة الصفر. كان عليها أن تنزل تعاليمها لتُعلمه بديهيات الحياة الإنسانية، لتعلمه كيف يُنظف نفسه، وكيف يقضي حاجته، وكيف يمارس أشياءه الحميمة. كان عليها أن تعلمه كيف يتعامل مع الأشياء من حوله. كان هدف السماء الأول هو أن تؤنسن هذا الكائن المتوحش. أرته السماءُ الدربَ، ووضعت قدمه على الطريق، لينطلق نحو بناء حياة تصلح أن يطلق عليها حياة إنسانية. لكن البدوي لم يكن مستعداً للمضي أكثر من ذلك. لم تكن له الرغبة في التنازل عن المزيد من ميراثه الجاهلي المقدس. فتوقف في أول الطريق، ولم يتقدم خطوة واحدة إلي الأمام.
. كان هدف السماء من رسالتها أن توقظ روح ذلك البدوي المدفونة تحت ركام شهواته الطينية. كانت رسالة السماء تهدف فقط لايقاظ تلك الروح لتبث الحياة في كومة الطين تلك، ولتوقظ كل حواسه المتحجرة، ليتلمس بها طريقه نحو بناء فضائله بنفسه. كشفت السماء للبدوي المكان الذي بلغه ركب الأمم المُتحضرة التي سبقته، وأمرته بأن ينقد نفسه ويلحق بذاك الركب ومنحته القوة ليفعل ذلك. فكيف فهم البدوي أمر السماء؟
إستجاب البدوي لأمر السماء ولحق بركب الأمم المتحضرة، لكنه فهم أمر السماء بعقل مقلوب. فبدل أن يندمج في ركب تلك الأمم، ويواصل بها ومعها التقدم نحو افاق جديدة للحياة، بدل ذلك تعامل مع الركب المُتحضر على أنه غنيمة منحتها السماء له. فاستولى على الركب وعاد به يجره من عنقه إلي الوراء، ليعود بالإنسان إلي المربع الأول، إلى نمط حياته الكهفية التي ادمنها. لم يضع البدوي قدمه حيث أنتهت الأمم التي سبقته كما أمرته السماء، بل عاد بها يجرها وراءه إلي كهفه الصحراوي الذي أنطلق منه وسجنها في كهفه الرملي ذاك. والأدهى من ذلك أنه قيّدها داخل كهفه ذاك بوصايا بداوته التي نسبها للسماء، ليمنع هذه الأمم من أن ترتقي درجة واحدة في سلم إنسانيتها،لتعود في أقل الأحوال إلى الدرجة التي بلغتها قبل وقوعها في أسره.
قصور فهم البدوي عن إدارك المغزى من تعاليم السماء، كان سببه الأول حنينه إلي حياته السابقة، التي أُجبر على تركها. لم يتعامل البدوي مع التعاليم الجديدة التي وضعت له الأساس للتعامل مع نفسه ومع من حوله على أنها نقطة بداية لإنطلاقته. لم يفهمها على أنها فقط إشارات إلى الصِراط المستقيم، لينطلق على هذا الصِراط، ويستكمل لوحده فضائله الناقصة. تَعلّقْ البدوي بحياته السابقة وبأصّنامه، جعله يُجمد تعاليم السماء عند تلك النقطة، ويحولها إلي صنم جديد، ويخلق من نفسه في نسخته الجديدة،نموذجاً كاملا ونهائيا للإنسان، وليس على بقية الأمم إلا أن تفتدي وتحتدي بهذا النموذج.
فكرة وجود نموذج كامل للفضيلة فكرة أقل ما يقال عنها أنها فكرة غبية، وأنت تحتاج إلي عقل البدوي لكي تهضمها. فكرة أن يكون هناك إنسان عاش قبل مئات السنين يصلح ليكون نموذجاً يقتدي به إنسان هذا الزمن فكرة ضد الله، وتعارض الحكمة من خلق الإنسان. فالله خلق الإنسان لينمو ويتطور، وإيقاف تطور الإنسان عند النسخة المُطورة للبدوي والمتمثلة في ما يسمى (السَلَف)، هذه الفكرة تعمل ضد قوانين الله ذاته.
السماء لا تفرض نماذج بشرية، ولا تهدف من رسالتها الي نسخ الخلائق. السماء لا تُنزِل شرائع صالحة لكل زمان ومكان. فهذا يخالف طبيعة الخلق، والحكمة من الخلق. رسالة السماء هدفها فقط إحياء تلك النفخة الساكنة في أعماق هذا الوعاء الطيني، ووصلها بالمصدر الذي جاءت منه، والذي هو أساس كل الفضائل. لا تحتاج السماء لإنزال الشرائع والقوانين لتُوضع في الكُتب، ولتُغلف بالقداسة،ولتكون خارطة طريق للإنسان نحو استكمال فضائله. لقد اودعت السماء كل الفضائل في الإنسان،عندما أودع الله فيه نفخةً من روحه، والله هو أُس كل الفضائل.
الإسلام بكل ما حوى من موروث، بما في ذلك النص القرآني، والسلف بما فيهم صاحب الرسالة ذاته، ليسوا غاية الإنسان الذي يبحث عن إيمانه. كل ذاك الموروث الّذي يوضع تحت خانة مقدس، لا يعدو أن يكون وسيلة المؤمن نحو ربه. قدسية ذالك الموروث تنبع فقط من كونه وسيلة تُعين المؤمن ليبلغ هدفه. هدف المؤمن أن يحقق صلته بالله، أن يجد ربه بعقله كما وجد صاحب الرسالة ربه. إنّ وظيفة صاحب الرسالة ليست عقد الصلة بينك وبين ربك، فلا أحد له المقدرة على ذلك إلا أنت. هو فقط يذلك على الطريق، فقط يُذكرك بأنه هناك روحا عظيمة تغمر هذا الكون بحبها، وأن في أحشاءك الطينية نفخة من تلك الروح.
إن ما نراه من صراعات حول قضايا فارغة تثبت أو تنفي الأفضلية لصاحب الرسالة عن بقية البشر، يدل على مراوحة العقل المُسلم في ذات الدرك الذي يراوح فيه منذ عشرات القرون. لم تأتِ رسالة السماء لتعظيم حامل الرسالة، بل لتعظيم مصدر هذه الرسالة،والذي يرتبط به كل كائن بشري بطريق تلك النفخة المودعة فيه. تماما كما أرتبط به الذي حمل الرسالة الينا. نحن نتفاضل بمدى إشعاع هذه النفخة في داخلنا، ومدى مقدرتها على خلق التواصل بمصدرها، الذي هو مصدر كل نور وكل فضيلة. حامل الرسالة لا يمكن أن يكون واسطة بينك وبين ربك، فلا توجد فراغات ولا مساحات بينك وبين من هو اقرب اليك من حبل وريدك. يجب أن نتوقف عن هذا الفهم البدوي للدين، الذي يرجع إلي مفاهيم صنمية ووثنيه. يجب أن نتوقف عن الفهم المقلوب للحقائق. فمحبة الله لنا نحن هي السبب في وجود الرسالة وصاحب الرسالة. علينا أن نُدرك أن بحثنا عن وساطة لتشفع لنا عند الله لا تعني إلا شيئاً واحداً، وهو أنه هناك من يحبنا أكثر من الله، ويتسع قلبه للمغفرة أكثر من الله، وله القدرة على التجاوز عن سيئاتنا أكثر من الله، وهذا هو الإنفصال عن الله.
إن أردنا أن ننهض بهذا الدين، فعلينا أن ننفض عنه المفاهيم البدوية الغارقة في الجهالة، علينا أن نُحقق ونتحقق من إيماننا، والأسئلة التي نطرحها في طريق بحثنا عن الله لا تُغضب الله. فالله يمتلك الإجابة لكل أسئلتنا، لكن أسئلتنا تلك تُغضب المنظومة الخدمية الفقهية التي أنشأها البدوي لتكريس عبوديتنا له.
علاقتنا بالله يجب أن لا تكون شمعة مرتعشة تحتاج إلي جلباب البدوي القصير ليحميها من الإنطفاء. هذه العلاقة هي نور متصل بين السماء والأرض. هي حبل متين يربط هذا الجزء (النفخة) المودعة فينا بالكل في عليائه.
لقد وجد الأسلاف ما يُقنع عقولهم للإيمان بهذا الدين. والمؤمن الذي يعيش في هذا الزمن يحتاج إلي ما يقنع عقله هو ليؤمن، ووفق مقتضيات عصره وزمنه. لايستقيم الإيمان بأنفس غير واثقة بذواتها. لا يستقيم أن تكون مبررات إقتناع مؤمن هذا الزمن بالدين هي فقط لأنه أقنع عقول أولئك الأسلاف، فينسب لعقولهم تلك العظمة والمقدرة التي ينفيها عن نفسه. يجب أن نثق بعقولنا نحن ونكف عن جحود نعمة الله علينا الذي كشف لنا من خبايا كونه من الأسرار ما لم يكشفه لمن سبقنا. علينا أن نتوقف عن نسبة القصور لعقولنا، في الحين الذي نعظم فيه عقول أُناس عاشت وماتت، ومبلغها من العلم أن الأرض التي تعيش عليها تقف عند حدود بحر الظلمات، حيث يقيم كما، زعموا، إبليس عرشَه. فلقد مضى الإنسان أبعد بكثير من بحر الظلمات،ولم يجد لا مملكة ولا عرشاً للشيطان، بل وجد أمماً آخرى تبحث هي الآخرى عن ربها االحق. علينا أن نتوقف عن المفاهيم البدوية الجاهلية لفكرة الله والشيطان ونكف عن جعل الشيطان مشجباً نعلّق عليه كل أسئلة عقولنا الحائرة. علينا أن نتوقف عن قمع عقولنا بنسبة الأسئلة التي تلح عليها إلي الشيطان. علينا أن نتوقف عن شيطنة عقولنا، أن نتوقف عن جعل عقولنا شياطين نتبرأ منها ونستعيذ بالله منها. نحن نحتاج إلى نُحقق إيماننا،ونتحقق منه، ونصل هذه النفخة الساكنه فينا بمصدرها، وعندها لن يكون هناك شيطان ولا جان،ل ن يكون في هذا الكون إلا الله والإنسان.
حياتنا بعد الموت تعنينا وحدنا،ويجب أن لا نسمح للكائنات الظلامية المنطلقة من قمقم الرمال أن تُصادر حقنا في البحث عن ربنا. فهذه الكائنات لن تشاركنا أبديتنا، يجب أن نبني علاقتنا مع خالقنا على أساس متين ولو خرِبت كل علاقاتنا الأخرى مع من سواه.
فليت الذي بيني وبينك عامرٌ… وبيني وبين العالمين خرابُ