بمناسبة عودة المفاوضات الغير مباشرة بين اسرائيل والسلطة الوطنية برعاية امريكية يصعب ان نشرح لشاب اوشابة عربيين يعيشان تحت الاحتلال الاسرائيلي او حول العالم الاسلامي المكون من مئات الملايين من الناس انه يوجد فارق كبير بين سياسة اسرائيل وسياسة الولايات المتحدة الامريكية. فحتى الساعة تذهب الاموال الامريكية بصورة او بأخرى الى المستوطنات في القدس والضفة الغربية. وبينما توجد قوانين امريكية ودولية صارمة لمنع وصول الاموال الى القاعدة والى الطالبان، الا انه لا يوجد جهد دولي قانوني عالمي وامريكي لمنع وصول اموال الولايات المتحدة الى المستوطنين في القدس وفي الضفة الغربية والجولان. اليس صحيحا ان الكثير من الجمعيات الخيرية الامريكية اكانت مسيحية ام يهودية تقوم باعمال تبرعات كبرى تنتهي بمستوطنات القدس والخليل ونابلس؟
لكن المشكلة اعمق من مجرد تمويل الاستيطان في المناطق العربية، فلتفسير حالة عدم الثقة والشك واحيانا كثيرة الكراهية التي تستفحل في العالم العربي تجاه الولايات المتحدة علينا ان نتساءل: اليس السلاح والمتفجرات الذي يقتل به العرب منذ اواخر ١٩٦٨ حتى اليوم هو الاخر سلاح امريكي؟ ثم الا يساوي مجموع التصويت بحق النقض الفيتو الذي مارسته الولايات المتحدة منذ السبعينات حتى اليوم وذلك لمنع إدانة الاعتداءات الاسرائيلية على العالم العربي والشعب الفلسطيني في مجلس الامن مجموع ما استخدم من حق النقض الفيتو من قبل بقية الاعضاء الدائمين؟ اليس صححيا ان الرئيس الامريكي جونسون عندما علم عام ١٩٦٩ بالبرنامج الاسرائيلي النووي من رئيس المخابرات المركزية الامريكية قال له ”بأن لا يعلم احد انه يعلم بالامر“ وذلك ليتفادي القيام بأي جهد لايقاف البرنامج.
ان الالتزام الامريكي منذ عقود بأبقاء اسرائيل قوة احتلال واستيطان في الاراضي العربية وبنفس الوقت متفوقة على مجموع الدول العربية المحيطة بها ساهم في مقدرة القاعدة على كسب الانصار، و قوي التشدد في ايران وبين اوساط حماس وعمق الارهاب وأضعف الوسطيين العرب. ان هذا الوضع يتناقض مع سعي الولايات المتحدة للتغلب على الارهاب، كما انه يثير تساؤلات كبرى حول مدى مقدرة الدولة الكبرى الاولى في العالم خط سير مستقل عن اسرائيل في ظل تسوية قادمة.
ان تأسيس عالم اسلامي وعربي اقل عنفا واقل تصادما مع السياسة الامريكية سيتطلب ابتعادا امريكيا عن تسليح اسرائيل وعسكرتها، ويجب ان يقترن هذا الابتعاد بأيقاف تدفق مليارات الدولارات العلنية والسرية التي تنتهي في مستوطنات عنصرية إجلائية على شكل بؤر عسكرية تؤسس لحروب ومواجهات لا نهاية لها بين اسرائيل والعالم العربي و الاسلامي. ان الادانة اللفظية الامريكية للاستيطان ستؤدي في النهاية الى جعل الدولة اليهودية خطر على نفسها وعلي الولايات المتحدة. من هنا تنبع اهمية ان يكون الرئيس اوباما قادرا على تغير المسار، والا ساهم من حيث لا يقوى بتعميق هذا الصراع وزيادة حدته في السنوات القادمة.
ومن الواضح الان بأن الحسم العسكري والضربات الاستباقية لا تصنع عالما جديدا، فهذا ما اكدته تجربة المحافظين الجدد في الادارة الامريكية منذ احداث الحادي عشر من سبتمبر. فلقد عادت الطالبان للقتال بقوة في افغانستان مستغلة الاخطاء الامريكية وفساد بعض الاطراف التي شكلت الحكومة الافغانية الجديدة، والعراق انفجر قتالا وحربا بعد حل الجيش العراقي واجهزة الامن العراقية عام ٢٠٠٣. و عندما يلتئم العراق ستكون قدرات الولايات المتحدة على التحكم بشؤونه محدودة، وايران هي الاخرى تحولت لقوة سياسية وعسكرية وذلك بفضل تدمير اهم منافسيها على حدودها( صدام والطالبان)، كما ان حرب ٢٠٠٦ بين اسرائيل وحزب الله ثم حرب غزة في ٢٠٠٩ اكدت ان القوة العسكرية الاسرائيلية لا تستطيع حسم جميع المعارك.
وبينما ننتظر من الرئيس اوباما تغيرا، خاصة انه يعرف الكثير عن المسألة الفلسطينية، الا انه في التاريخ المديد بين الولايات المتحدة والعالم الاسلامي لم يتغير المنطق الامريكي المنحاز. فقد دعمت الولايات المتحدة شاه ايران ضد الرئيس الشعبي الوطني مصدق، لكنها انتهت بثورة الخميني الاسلامية، ودعمت الولايات المتحدة اسرائيل ضد القومية العربية وعبد الناصر فانتهت بالحركات الاصولية المعادلة للغرب، ودعمت الولايات المتحدة قيام اسرائيل بغزو لبنان عام ١٩٨٢ فانتهت بحزب الله في جنوب لبنان. ودعمت المجاهدين الافغان ومجموعات بن لادن ضد الاتحاد السوفييتي فانتهت بالطالبان والقاعدة واحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما انها اعاقت، في اوج دعوتها الديمقراطية في الشرق الاوسط في زمن الرئيس بوش، حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية المنتخبة برئاسة حماس فأنتهى الامر بسيطرة حماس على غزة. لائحة قصر النظر الامريكية طويلة، رغم اننا نستطيع ان نستثني منها حرب تحرير الكويت ١٩٩٠ وبضعة مواقف صلبة ذات طابع مؤقت ضد الاستيطان الاسرائيلي او لصالح حقوق الانسان في العالم الاسلامي.
لقد اصبح العالم الذي تعيشه الولايات المتحدة في الشرق الاوسط عالم سريالي مليئا بالتناقضات والحروب والخسائر المالية والبشرية والسياسية. اصبح السؤال : الى اين تسير الدولة الكبرى الاولى في العالم؟ هل تسير في ذات الطريق الذي سارت به من قبلها دول كبرى، وذلك من خلال تبديد مواردها في حروب واحتلالات؟ الدولة الكبرى في العالم تتعامل مع السياسة في الشرق الاوسط انطلاقا من هموم وحسابات اسرائيلية اولا وذلك لانها نتاج تأثيرات محلية وانتخابية. لكنها لا تتعامل مع بقية العالم كما هو الامر في الشرق الاوسط. لقد أضاعت الولايات المتحدة العلاقة العربية الامريكية في حمى الحسابات الضيقة وانتهى بنا الامر الى صدام اكبر كما هو حصل في السنوات القليلة الماضية. على الولايات المتحدة ان تتحرر من هذا الضغط الداخلي اولا وذلك لكي تنجح في تحقيق تقدم في الشرق الاوسط. بدون صحوة حقيقة وتحرر من سيطرة اقلية صغيرة على مجرى السياسة الخارجية تجاه الشرق الاوسط لن يتغير شيئ، بل ستزداد الامور سوءا وسريالية وعنفا.
الامريكيون في هذه الايام بالتحديد اكثر استعدادا للاستماع. ففي سلسلة محاضرات لي في مدن امريكية مختلفة على فترات مختلفة في الشهور القليلة الماضية حول اوضاع الشرق الاوسط والمسألة الفلسطينية بدأت ارى عالما اكثر تساؤلا عن العلاقة مع العالم الاسلامي والعربي. فوجئت على سبيل المثال في مدينتي دينفير وبولدر في ولاية كولورادو بالاعداد الضخمة المكونة من مئات الحاضرين التي جاءوا للاستماع عن ”العالم العربي على مفترق الطرق.“ التعطش الامريكي للتساؤل يعكس الفراغ الذي يعيشه الشعب الامريكي بعد حربي العراق و افغانستان.
فبعد الحادي عشر من سبتمبر ساد الامريكيون سؤال اساسي عن العرب: ”لماذا يكرهوننا،“ لكن السؤال بدأ يتراجع الان امام سيل من الاسئلة منها ”هل قامت السياسة الامريكية بشيئ يساهم في هذه الكراهية ؟“. التيار العام في الولايات المتحدة لم يصل بعد للسؤال الاساسي عن دور اسرائيل في العنف بين الشرق والغرب. ولكن عندما تعلن امام جمهور امريكي: ”لا حل عسكري في العراق لا حل عسكري في افغانستان لا حل عسكري للصراع العربي الاسرائيل ولا حل عسكري للازمة مع ايران، بل ان الحل الوحيد هو الحل العادل الذي ينطلق من حقوق الانسان والمساواة بين الشعوب وحق تقرير المصير“، تشعر بمدى تجاوب الامريكيين مع منطق ناقد لسياساتهم الخارجية تجاه الشرق الاوسط.
وفي احدى الندوات اكدت متحدثة: ”منذ خمس سنوات كنت من اشد المؤيدين لاسرائيل، لكن الامر اختلف الان“. سألتها: ”ما الذي تغير؟“ فقالت: ”الحرب في العراق وفي افغانستان وجنوب لبنان وحرب غزة جعلتني اتساءل عن صحة تدخلنا ودقة موقفنا، لقد انتخبت الرئيس بوش في السابق والان اوباما باحثة عن التغير. لم اكن اعرف في السابق ان اسرائيل تضطهد شعبا اخر، كنت اعتقد ان هذه الاقوال دعاية عربية معادية لليهود وللسامية، والان اكتشف انه الامر ليس كذلك، وان اسرائيل تضطهد شعبا اخر .“
كان الامريكيون على الصعيد الرسمي كما والشعبي في زمن الحرب الباردة مقتنعين بان اسرائيل تقوم بدور اساسي في مواجهة الاتحاد السوفياتي. وفي هذا القول بعض من الصحة، لكن الامر اختلف الان، فالولايات المتحدة تقاتل في كل مكان في الشرق الاوسط نيابة عن اسرائيل بأكثر مما هو نيابة عن الولايات المتحدة ومصالحها. وقد تنجر الولايات المتحدة لمواجهة مع ايران ايضا نيابة عن اسرائيل وهذا سيؤدي لكوارث في العلاقة بين العالمين الاسلامي والغربي.
التغيرات الامريكية عديدة، فهناك نمو في الجمعيات الامريكية واليهودية ( منها J street اليهودية) التي تعي خطورة استمرار الاحتلال في فلسطين والتي تعي خطورة ابتلاع القدس. في ندوة علنية حاشدة وقفت مواطنة اسرائيلية من مؤيدي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني تشرح كم تعاني من الملاحقة في اسرائيل لانها تقول برأي اخر. هناك بداية وعي بأن مصلحة الولايات المتحدة لم تعد تتطابق مع مصلحة اسرائيل، وان مصلحة اسرائيل الرسمية لم تعد تتطابق وعقلية الاستيطان ومصادرة القدس.
أسرائيل مكونة اليوم ، في ظل حكومة نتنياهو، من مجموعة من المتعصبين المغامرين الساعين لجر دولة كبرى الى نهاية عالمها. اذ يمثل رئيس الوزراء الاسرائيلي نمط من الاسرائيليين ممن يسعون لاستيطان مزيد من الارض لانهم يشعرون بأن اسرائيل تقف على مساحات ضيقة واراضي قليلة. ولا يختلف رئيس الوزراء نتنياهو عن غيره من الاسرائيليين الذين لا زالوا ينطلقون من مبدأ التوسع على حساب العرب. ليس هذا بالامر الجديد، اذ يمثل رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو استمرارا للعقيدة الصهيونية التي تؤمن بأن مشروعها مشروع اقتحام واستيطان. ان نتنياهو لا يرى فارقا بين الاراضي التي تم الاستيلاء عليها بالقوة عام ١٩٤٨ وتلك التي تم الاستيلاء عليها بالقوة عام ١٩٦٧، وهو لا يرى ايضا فارقا بين القدس الشرقية التي احتلت عام ١٩٦٧ والقدس الغربية التي احتلت عام ١٩٤٨. فهذه العقلية هي اساس الفكرة الصهيونية منذ بداياتها ومنذ نشوء دولة اسرائيل في قلب فلسطين وعلى حساب الفلسطينيين سكان البلاد الاصليين. فالذي يبرر اخذ الارض عام ١٩٤٨حيث لم يمتلك اليهود منها اكثر من ٦٪ يبرر اليوم قضم ما تبقى من فلسطين والقدس والجولان.
وبينما يزداد الصراع حدة على ارض فلسطين، تزداد حكومة نتنياهو انحدارا نحو اليمين. ان المغالاة ستكون صفة ملازمة للسياسة الاسرائيلية في المرحلة القادمة. لكن هذا لا يعني ان كل الاسرائيليين يرون الواقع من خلال هذا المنظار، هناك قوى اخرى في اسرائيل ترى حدود مشروعها الصهيوني، لكن نمو هذه القوى ودورها معطل حتى الان في ظل هيمنة اليمين واستفحاله.
ان تغير العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم العربي والاسلامي يتطلب تغير قواعد اللعبة الامريكية تجاه الصراع العربي الاسرائيلي في ظل سعي امريكي للتحرر من الانحياز لاسرائيل. ان جوهر التغير يبدأ في فلسطين، فهي النقطة المركزية التي سببت الانقطاع الثقافي والمعنوي بين العالمين وهي التي وضعت الولايات المتحدة في كفة والعالم العربي والاسلامي في كفة اخرى وهي المسؤولة عن سيطرة الديكتاتورية في العالم العربي. ان انسحاب الولايات المتحدة من حالة الصدام مع العالم العربي والاسلامي لن يكون ممكنا بلا حل القضية الفلسطينية حلا عادلا وانسحاب اسرائيل والمستوطنين، وتأمين حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. كما ويجب ان يتضمن الحل انسحابا من الجولان السورية وتسوية مشرفة مع ايران وبقية العالم العربي. ان حل كهذا لن يكون ممكنا بلا تحرر امريكي من سطوة الانحياز والضغط الانتخابي الداخلي الذي يرهق الولايات المتحدة ويزيد من جراحها ويحملها ما لا طاقة لها به. إن اسرائيل بوضعها الراهن عبئ كبير على الساسية الامريكية وعلى الامن العالمي.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت