لا يمكن فصل مسألة المصالحات التي أجراها رئيس الجمهورية عن تشكيل الحكومة، ليس فقط لجهة أن التشكيل سرّع في اتمام هذه المصالحات، إنما من زاوية الوظيفة السياسية المحددة لهذه المصالحات، والتي يمكن اختصار أهدافها بترتيب صفوف حلفاء سوريا وتوزيع الأدوار فيما بينهم.
الحديث عن مصالحات في غير محله، لأن لا خلاف اليوم في لبنان يستوجب مصالحة، فكيف بالحري إذا كان الهدف إعادة فتح قنوات التواصل بين أصحاب الخط السياسي ذاته؟ فاللقاءات الثنائية التي جمعت النائبين سليمان فرنجيه وميشال عون مع النائب وليد جنبلاط بمبادرة وحضور رئيس الجمهورية هي خطوة طبيعية بعد التموضع السياسي للزعيم الدرزي، ولن يكون لها أي مفاعيل سياسية على أرض الواقع، خصوصا أن النائب جنبلاط كان وضع لقاءاته في إطار إنجاح عمل الوزارة لا أكثر ولا أقل، واللجان التي قيل بأنها ستعمل على متابعة ما اتفق عليه في قصر بعبدا وتعميق التعاون بين الجانبين هي لحفظ ماء وجه العماد عون الذي كان اشترط للقائه جنبلاط توقيع الأخير على ورقة تفاهم، غير أن الحاجة السورية لتأليف الحكومة التي فرضت على عون وقف التعطيل والموافقة على ما هو معروض عليه، هذه الحاجة نفسها فرضت عليه أيضا لقاء جنبلاط من دون شروط مسبقة.
فالظروف السياسية التي دفعت النائب جنبلاط إلى التخلي عن عدائيته لحزب الله والوقوف على مسافة واحدة بين السنة والشيعة، هذه الظروف نفسها ستجعله يقف على مسافة واحدة بين مسيحيي 14 و8 آذار، لأن تحوله إلى رأس حربة في مواجهة مسيحيي الأكثرية سيفقده تلقائيا الرصيد الذي راكمه على امتداد العقد الأخير. وجاءت الانتخابات الأخيرة لتؤكد هذا التوجه الذي فاجأ جنبلاط نفسه، هذا بالإضافة إلى أن أي خطوة من هذا النوع سيكون لها ارتدادات سلبية على علاقته مع تيار المستقبل ومسيحيي 14 آذار. فلا يمكن أن يربج جنبلاط “السماء والأرض في آن”، وبالتالي إما عون أو مسيحيي 14 آذار. ولذلك، سيحاول الزعيم الدرزي المزاوجة بين التحديات الأمنية التي أملت عليه الربط مع حزب الله-عون والتحديات السياسية-الانتخابية التي تملي عليه عدم الفك مع 14 آذار. وبالتالي لن يعطي جنبلاط أي هدية مجانية لعون كما يتمنى الأخير تعزيزا لشعبيته المتآكلة ورصيده المتهالك، بعد أن أيقن زعيم الرابية بأن العداوة “العونية” مع جنبلاط لم تعد بضاعة قابلة للتسويق وبدأت تنعكس على مناصريه، كما أن عداوته مع البطريرك الماروني ومقاطعته لموقع رئاسة الجمهورية انعكستا سلبا على شعبيته المسيحية، وبالتالي مجرد إعادته النظر بسياساته هو أكبر دليل على صوابية نهج مسيحيي 14 آذار وخياراتهم مقابل فشل سياساته وعقمها.
ولكن هذه المصالحات أعطت انطباعا بأن ثمة توجهاَ لعزل مسيحيي 14 آذار مقابل محاولة احتضان الرئيس سعد الحريري وترميم “البيت السوري” في لبنان. وهذا لا يخدم موقع رئيس الجمهورية ودوره، إذ كان من الأجدى أن يبادر الرئيس إلى وضع خطة متكاملة لهذه المصالحات بحيث لا تستثني أحدا، وأن يعدل عنها في حال العكس، خصوصا أن من مصلحة الرئيس مصالحة الرأي العام المسيحي مع موقع الرئاسة بعد قطيعة كاملة لولايتين رئاسيتين، لأن أي خطوة ناقصة أو ملتبسة في هذا المجال قد تعيد أزمة الثقة بين الجانبين بعد الترميم النسبي لهذه العلاقة المتأتي من مواقف الرئيس في خطاب القسم وغيرها من المحطات.
هذا الكلام لا يقود إلى تشبيه الرئيس سليمان بالرئيس لحود، لأنه من الظلم مقارنة سليمان بلحود، ولكن ثمة بعض المؤشرات غير المطمئنة في هذا المجال، من رغبة سوريا تشكيل تكتل سياسي من حلفائها بجانب الرئيس إلى عملية توزيع للأدور بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي والنائب وليد جنبلاط، بحيث تقدم كل واحد منهم بطرح سياسي أقل ما يقال فيه أنه يستفز المسيحيين في هذا التوقيت السياسي بالذات. ففي حين تولى الرئيس سليمان قضية التعديلات الدستورية، أثار كل من بري وجنبلاط موضوعي إلغاء الطائفية السياسية والمداورة في الرئاسات. أما الهدف من وراء إثارة هذه القضايا فهو تحويل الأنظار عن القضية الأساس، وهي سلاح حزب الله، وإعادة الانقسام في لبنان من انقسام سياسي إلى انقسام طائفي.
وإذا كان استفزاز المسيحيين أمراً طبيعياً وقد اعتادوا المسيحيين عليه، في حين كان يؤمل الإقلاع عن هذه الممارسات، فإن المقصود هو إرباك الرئيس الحريري عبر وضعه “بين شاقوفين”: بين حلفائه في 14 آذار وبين دوره كرئيس حكومة يريد أن يستهل عهده بالانفتاح على جميع القوى والانتاجية الحكومية، ولا يخفى طبعا الهدف الأساس المتمثل بفك العلاقة بينه وبين مسيحيي 14 آذار. إن إثارة هذا الكم من الملفات الخلافية في وجه الحريري هو لشلّه وبالتالي دفعه إلى الاستعانة بسوريا من أجل تمكينه من ممارسة مسؤولياته. فالأوضاع في البلاد التي فرضها عامل السلاح لا تحتمل مقاربة قضايا خلافية، خصوصا أننا في ظل هدنة سياسية فرضتها ظروف إقليمية قضت بتجميد كل شيء باستثناء قضايا الناس اليومية، ومن هنا كانت رغبة الحريري بإضافة أولويات حياتية على البيان الوزاري علها تجد طريقها إلى الترجمة العملية.
فالمآخذ على رئيس الجمهورية هي في عدم مبادرته إلى طرح سلة من المشاريع السياسية ومن بينها اللامركزية الإدارية ومجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية، وهي مواضيع منصوص عليها في اتفاق الطائف، والمبادرة إلى تطبيقها من موقع مسيحي هي غيرها من مواقع إسلامية، لأن المبادر يستطيع أن يضع الإطار والسياق والتوجه الذي لا ينفّر المسيحيين. لا شك أن المطلوب تطبيق الطائف قبل تطويره، وتطبيقه مستحيل في ظل وجود حزب أقوى من الدولة. ولكن هذا لا يمنع إطلاق النقاش السياسي في هذه المواضيع الخلافية، خصوصا أن الطائف نفسه اكتفى بالعناوين دون الغوص في تفاصيل هذه المشاريع. فإلغاء الطائفية السياسية لا تعني إطلاقا إلغاء المناصفة المسيحية-الإسلامية إنما نقل هذه المناصفة الشكلية من مجلس النواب إلى مناصفة فعلية في مجلس الشيوخ الذي من مهامه معالجة القضايا الأساسية، هذه القضايا التي كانت وما زالت مدار خلاف منذ تأسيس هذا الكيان إلى اليوم، وبما أنه مرجح استمرار هذه الخلافات، يستحسن فصل قضايا الناس الحياتية عن القضايا الوطنية.
ولعل ثمة لغط في موضوع مجلس الشيوخ يقتضي تصحيحه وتصويبه، وهو أن رئاسة هذا المجلس يفترض أن تؤول تلقائيا فور تشكيله إلى شخصية درزية، وهذا أمر غير صحيح وغير منصوص عنه دستوريا، لا بل أنه يضرب عرض الحائط الصيغة اللبنانية الميثاقية، إذ لا يجوز أن يكون هناك ثلاث رئاسات إسلامية مقابل رئاسة واحدة مسيحية، بينما المناصفة المسيحية-الإسلامية تفترض حكما أن تؤول رئاسة هذا المجلس إلى شخصية مسيحية أرثوذكسية للموازنة بين الرئاسات (رئاستي الجمهورية والشيوخ للمسيحيين ورئاستي المجلس النيابي والحكومة للمسلمين)، وعلى أن يكون نائب رئيس مجلس الشيوخ درزيا.
أما لجهة المداورة بين الرئاسات، فهي من خارج اتفاق الطائف، وثمة وجهتا نظر في شأنها. وجهة النظر الأولى مؤيدة للمداورة من زاوية أنها تضع حدا للصراع على الصلاحيات بين الرئاسات وتؤمن التوازن المطلوب فيما بينها وتساهم في تحسين عملها وفاعليتها وانتاجيتها وتبدد تدريجا الاصطفافات والتشنجات الطائفية. أما وجهة النظر المعارضة فترى أن ما يميز لبنان عن الدول المجاورة هو هذه الرئاسة المسيحية التي جعلت من هذا البلد وطن الرسالة، وبالتالي يجب عدم مسها، ولا بل مساعدة الرئيس على إطلاق مبادرات خلاقة تعزيزا لدور الرئاسة الأولى وحضورها.
التواصل بين القيادات يبقى أفضل من القطيعة كونه يخفف من التعبئة السياسية، إنما هذا التواصل يبقى شكليا ما لم يرتكز على أسس سياسية ثابتة وتوجهات وطنية مشتركة، لأنه عند أي استحقاق أو قضية خلافية قد يتحول الوصل إلى فصل، وبالتالي الأساس هو في إبقاء الصراع مضبوطا تحت سقف الدستور والقوانين المرعية، والسعي إلى اتمام مصالحات على قواعد سياسية بغية أن يكون لها طابع الديمومة والاستمرارية والمساهمة في الانقاذ الوطني، وما عدا ذلك لا يعدو كونه حراكا سياسيا في الوقت الضائع.
charlesjabbour@hotmail.com