1-
فشل وزير الثقافة المصري فاروق حسني في محاولة الفوز بوظيفة الأمين العام لليونسكو، وبرّر الفشل بمؤامرة غربية كان الإسرائيليون والصهاينة رأس حربتها. ورغم عدم، أو ضرورة، التقليل من أهمية مبررات كهذه، إلا أن منطق تبرير الفشل بالمؤامرة يعاني من خلل واضح:
أولا، لأنه يمثل إستراتيجية معروفة ومألوفة يحرص العرب على توظيفها كلما فشلوا في هذا المسعى أو ذاك، وهي ذات غواية مدهشة بحكم ما لها من سطوة ونفوذ في العالم العربي، إلى حد أصبحت معه نظرية المؤامرة، على مدار عقود طويلة، أداة طيّعة وغير مكلفة لتبرير كل ما يخطر على البال.
وهي إلى جانب هذا وذاك محمولة على الإيحاء، ومرفوعة على جناح عواطف مشبوبة: الإيحاء بوجود أشياء تُحاك في الظلام (وهل ثمة ما يستنفر الخيال أكثر مما لا تبصره الأعين وتهجس به الحواس؟) والعاطفة التي تحض العربي على التضامن مع أخيه ظالما ومظلوما. وفي الحالتين يصبح مَنْ فشل في هذا المسعى أو ذاك ضحية مثالية، وربما يتوّج شهيدا باسم قضية كبرى، ويصبح البحث عن أسباب موضوعية للفشل نوعا من الخروج على الجماعة والإجماع.
ثانيا، لأن التدليل على كفاءة الوزير الذي سلخ عقدين من عمره على رأس وزارة الثقافة في مصر مسألة إشكالية في أفضل الأحوال. فعلى مدار العقدين الماضيين أبدى كثير من المثقفين المصريين امتعاضهم من طريقة الوزير في إدارة الشأن الثقافي في بلد كانت عاصمة للنهضة والتنوير العربيين، وتراجعت في العقود الأخيرة لتصبح مكانا تُصادر فيه الكتب، ويُحاكم فيها الكتّاب بقوانين “الحِسبة”.
وحتى إذا افترضنا جدلا أن امتعاض المثقفين المصريين نجم عن تحيّزات ومطامح وصراعات لا تستقيم دلالتها خارج المشهد الثقافي في مصر. فمن غير الممكن، أو المنطقي، أن نلغي عقولنا وأن نتجاهل حقيقة أن عاصمة النهضة والتنوير العربيين في وضع لا تُحسَد عليه بالمعنى الثقافي (ناهيك عن السياسي والاجتماعي) وأن إعفاء شخص اشتغل وزيرا للثقافة على مدار عقدين من الزمن من المسؤولية عمّا أصاب المشهد الثقافي من تدهور، حتى وإن تكن مسؤولية جزئية، يتنافى مع المنطق والذوق السليم.
2-
ومع ذلك، حتى إذا سلّمنا، جدلا، بوجود مؤامرة، وقمنا بدور محامي الشيطان، كما يُقال، فثمة أسئلة يصعب تجاهلها: ألا يُعطي الكلام عن المؤامرة، بطريقة تكاد تكون كربلائية، للمتآمرين حجما أكبر من الحجم الحقيقي لما مارسوه من نفوذ في انتخابات اليونسكو، وألا يجعل الكلام عنهم بهذه الطريقة من كل عمل لا يرضيهم ضربا من العبث، وأخيرا ألا يوحي الكلام عن مؤامرة بمحاولة لتغييب حقائق موضوعية تقترن بالتقصير والقصور الذاتيين؟
من المعروف، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمؤسسات والمحافل الدولية، أن الدول تجري مساومات، وتمارس تسويات أمام ووراء الكواليس. وهذه وتلك عناصر أساسية في اللعبة الدولية.
وقد تجلى أمر المساومات والبحث عن تسويات في السلوك الانتخابي للسيد فاروق حسني نفسه، الذي حاول الالتزام ببعض “الضوابط” السائدة عندما دفع عن نفسه تهمة العداء للسامية، وأعاد تفسير تصريحات سابقة حول التطبيع بطريقة تقلل من تأثيرها السلبي على نتائج الانتخابات. والواقع أن تفوّق المرشحة البلغارية عليه بفارق أربعة أصوات، فقط، يعد إنجازا له، ويدل على حجم النفوذ الذي مارسته الدولة المصرية لترجيح كفته.
من السذاجة، بالتأكيد، الاقتناع بأن الحملة التي قادها أشخاص من أمثال “برنار هنري ليفي” في فرنسا كانت العامل الحاسم في فشل الوزير المصري. القوى الفاعلة تبني حساباتها استنادا إلى معطيات لا تتأثر كثيرا بمرافعات ليفي وأمثاله، حتى وإن أضفت عليها في العلن مكانة معنوية عالية.
كذلك، يمكن التذكير بحقيقة أن مكانة الإسرائيليين في المشهد الثقافي الأوروبي بشكل خاص لم تكن في يوم من الأيام أسوأ مما هي عليه في الوقت الحاضر. اليوم، ثمة ما يشبه خيبة الأمل، وتلاشي الرومانسية التي وسمت موقف المثقفين الأوروبيين من إسرائيل في عقود سابقة.
والواقع أن الإسلام السياسي وتجلياته الجهادية المتطرفة، إضافة إلى ركود وفساد غالبية أنظمة الحكم في العالم العربي، حقائق تقوم، ضمن أمور أخرى، بدور خشبة الخلاص بالنسبة لهنري ليفي وأمثاله، إذ تحررهم من مأزق إنتاج وتوليف مرافعات فقدت قيمتها، وتقلّص عدد مستهلكيها في الغرب، وتبقيهم على خشبة المسرح بعدما انتهت المدة الفعلية للعرض.
“هنري ليفي” أنيق الملبس والملمس، وقليل الدسم. وهو في عالم الثقافة والمثقفين من طراز عمرو خالد في عالم الدعوة والدعاة. كلاهما ظاهرة تلفزيونية. ومن حسن الحظ أنني لمست حقيقة الظاهرة التلفزيونية عن كثب، عندما جاء إلى رام الله قبل سنوات “لاستطلاع آراء المثقفين الفلسطينيين” بشأن الانتفاضة والصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، وقد خطر لي بعد نقاش أقرب إلى لعبة كرة الطاولة منه إلى تداول المواقف والآراء سؤال ما يزال ملحا حتى الآن: كيف نجح شخص هكذا، وبهذا القدر من العدة والبضاعة الفكرية الرديئة، من احتلال مكانة مرموقة في المشهد الثقافي الفرنسي؟
ولعلنا نعثر على جواب محتمل في حقيقة أن المشهد الثقافي على غرار أشياء كثيرة يخضع لمنطق السوق. والمفارقة أن بضاعة هنري ليفي أصبحت في الآونة الأخيرة شبه كاسدة في بلد المنشأ، لكن الكلام عن مؤامرة غربية تجلت في حملة قادها “هنري ليفي” و”إيلي فايزل” ومن لف لفهم للحيلولة دون انتخاب عربي لمنصب الأمين العام لليونسكو تمنح أولئك الأشخاص نفوذا لا يملكونه في الواقع، وكفاءة يصعب التحقق من وجودها، إلا إذا صدّقنا نظرية المؤامرة، وقبلنا بدور الضحية، ورفعنا فاروق حسني إلى مرتبة الشهيد الحي. وهذه، لعمري، بضاعة لا تقل كسادا عن الأولى.
Khaderrhas1@hotmail.com
• كاتب فلسطيني- برلين
عن جريدة الأيام
بضاعة كاسدة..!!
أتفق مع هذا المقال.. وقد سئمنا من كلمة “مؤامرة” دائما والمبررات بعد كل فشل؛ وكأننا لا نفهم أو نستطيع ان نستوعب منطق الأحداث بحكمة…!! وأتفق مع أن فاروق حسنى لم يكن مرغوبا بشدة لا داخل مصر ولا خارجها.. فلماذا إتهام الأخرين ؟ أليس من حق الأخرين والجميع الإختيار ؟؟ نحن العرب إعتدنا على الا نختار بل ان يفرض علينا…!!!
بضاعة كاسدة..!!
هل شحت مصر العظيمه بالمثقفين العظام حتى يطلع علينا فاروق حسني ابن النظام المهترئ القمعي لكي يمثل مصر في الثقافه؟
بضاعة كاسدة..!!
مقال جيد ولكنه إن دل على شيء فهو أن مصر، حاكماً وحكومةً، بمجرد تسميتهم لهكذا فرد ذو البضاعة الكاسدة انما اثبتوا كسادتهم هم, و هذا ما هو الأكثر أسف.