في إحدى ليالي الصيف الخانقة أواخر الستينات، وكانت نوافذ المطبخ مشرّعة، دخل لصٌ الى بيتنا وسرقَ اشياءً لن نفْتقدها إلا في اليوم التالي. ومن بين المسروقات، كان راديو تسجيل يصدح طوال ايام الاجازات وساعاتها، بأغاني «البيتلز»، تلك الفرقة البريطانية التي ذاعت بين شباب العالم ومراهقيه، وقد عُرفت بتسريعها وتيرة اللحن الموسيقي العاطفي وبصخبها وحثّها على الرقص السريع ايضاً… آنذاك. كانت نهاية الستينات، عصر الـ «يي يي…» و»الهيبّيز» ورقصات «الجيرك»، وبعض «الروك أند رول».
وكان ابي وامي يتكبّدان أغاني هذه الفرقة وحماسنا لها بصبــــر حينا، وبتوتّر حينا آخر. لذلك عندما تيقّن ابي من أن راديو التسجيل الذي يبث اغاني فرقة الضوضاء هذه قد سُرق، وســط مراهقين متحمسين وأشقياء، تنفّــس الصعداء وتمْتمَ: «الحمد لله… هلّق راح نروق (الآن سوف نهدأ)». كانت هذه أولى «سوالف» الهوة بين الاجيال أُدركها…
وقد بقيتْ هذه «السالفة» بالذات عالقة معي عندما انجبتُ ابني ثم ابنتي. فعكفتُ، رغم شرودي احياناً، وبشيء من الإرادوية او النضالية، على محاولة تذوّق ما يتذوّقان، لعلي بذلك أردمْ هوّة الاجيال بيننا، فأعمّق علاقتي بهما وأغتني بجديدهما. هكذا على كل حال تعلمتُ استخدام الكمبيوتر…
وربما بهذا الدافع ايضاً احببتُ موسيقى «الترانس» المعاصرة والتي لا اعرف الكثير عنها، سوى انها موسيقى يجمعها D.J..، (أو، disk jokey، أي جوكي الاسطوانة، الذي يختار او يجمّع واحيانا يؤلف). ولهذه وتيرة تصاعدية «تطريبية» مكررة، ولكن غير مضجرة، أو هكذا يُفترض… وتطوير إلكتروني لألحان اصلية او كلاسيكية معروفة احيانا، ولكن بنغماتها الخاصة.
زعمي حُسن العلاقة مع اولادي من جهة وحبي لموسيقى «الترانس» من جهة اخرى، كانا وراء حادثة تسبّبتُ بها منذ ايام. في بيروت ومع ابني وابنتي لأيام معدودة، وحماسي لمشاركتهما «الحدث» الفني الذي تتلهّف له المدينة: كونسرت (concert) يقيمه الـD.J. الهولندي العالمي أرمين فان بيورن بموسيقاه «الترانس» المعروفة. وأرمين فان بيورن بحسب بطاقة الدخول، هو الذي «انتخب D.J. رقم واحد في العالم».
فكان زحفنا نحن الثلاثة الى قاعة المؤتمرات في بيال. وعلى فلاشات اذاعة الأف أم (F.M.) التي تحثّنا على الاستعجال، تجنّبا للزحمة الخ. فنستأخر انفسنا ونتوكّل على الخطى… لنفاجأ، كالعادة، بالعشرات فحسب. والامر ليس في التبْكير، بل في الشحنة الاذاعية، بالتسويق الذي أنجح الحفل في ساعاته المتقدمة.
ومن نقاط من وتفتيش وممرّات مصنوعة من حواجز متلاصقة. ثم القاعة-الخيمة نفسها التي تُعقد فيها معارض الكتب والمؤتمرات السياسية والاحداث الثقافية. وديكور واضواء ويمامة وفراشة ضخمتان معلقتان في الهواء. ثم في الصدارة، على المنبر الذي تلقى منه الخطب السياسية والثقافية، الـ D.J. «المحلي»، اماديوس، والمكلف بموسيقى الافتتاح. انه الـ D.J. المعروف محليا والمغمور دوليا، والذي يتفوق على الـ D.J. العالمي، كما سوف يتبّين لي لاحقا. موسيقى اقل شأنا من حيث الرتبة العالمية، او اللقب، لكنها الأكثر قرباً من «الترانس» الذي اعرفه واحبه. موسيقى لا تتكرر مرة واحدة، مع انها مكررة. نوع من التطريب الالكتروني ربما.
ثم الفقرة الثانية مع الـ D.J. الثاني. وعنوانها «التحْمية» أو «التسخين» (warm up). اي تحميس الجمهور المتحمّس اصلا، في انتظار النجم العالمي الذي اتى الجميع من اجله. موسيقى «دِجْ! دِجْ! دِجْ!»، بين ما يشبه النــغمة والاخرى. موســيقى «دِجْ! دِجْ! دِجْ!»؛ صوت ليس بالصوت، بل رجّة للجسم والقلب: زلزال يصيب الجسد دون الحجر. «دِجْ! دِجْ! دِجْ!» على هذا المنوال الطويل. فالنجم العالمي تأخر، ودخان السجائر بات يحجب الرؤية. والكل يهتف بعد عريف الكونسرت «أرمين… يي! يي! يي!». وبأياد مرفوعة وقفزات وثّابة نحو العُلى…
فبعد تعبئة، «دِجْ! دِجْ! دِجْ!»، والتي لا يضاهيها غير ما نعرفه من تعبئات، ظهر الزعيم أرمين… فكانت الترانس، بالمعنى الحرفي للكلمة، الهذيان وتحلل الروح بالشخصية، الكاريزماتية، ايضا. «بالروح! بالدم! نفديك يا أرمين…»، يكاد يصرخ الشباب والشابات. وأرمين يتلاعب بأعصابهم… ربما لا يسمعون الأنغام التي اختارها او مزجها، سمعوا اسمه، فاطمأنوا. ولا بأس بأي نغم طالما يخرج من «رقم واحد العالمي» هذا. اطمأنوا للإعتراف العالمي به؛ وبأن موسيقاه بالذات هي الجديرة بتدويخ الباحثين عن الدوْخة.
لا حاجة ربما لتوضيح أنني كنت وسط هذا «الحدث» كالعجوز وسط الاحفاد. وانني عوملت احيانا، كالجاسوسة، كالغريبة الاطوار. وانني شعرت من البعض بذبْذبات غير مرحّبة. صحيح ان الفواصل الطبقية بين الجموع كانت صارمة. اذ كان في القاعة السفلى اصحاب بطاقات الخمسين دولارا. وعلى مرتفَعي اليمين والشمال، اصحاب بطاقات المئة والمئة وخمسين دولارا. ولكن ما من عالم بدا مشتركا كعالم «الترانس» هذا. مراهقون وشباب تجمعهم المجايلة، قبل الطبقة الاجتماعية. مجايلة في معنى الموسيقى والوتيرة الواحدة والرقص الواحد، والزعيم الواحد… «الذي انتُخب رقم واحد عالميا».
انتهيـتُ من الحفل قبل نهايته. بعد ساعة واحدة من وصولنا، بدأت أكابر تجنّباً لإفساد متعة ابني وابنتي. لكن النتيجة كانت عكسية تماما. فكثرة الـ»دِجْ! دِجْ! دِجْ!» ودخان السجائر الكثيف اهدرا طاقتــي على الصبر الجميل. فكان خروجنا… لكنني بقيت اتساءل واشك في موضوعين: الاجيال. هل هي فعلا هوّة زمانـية، بيننا وبين اللاحقين والسابقين؟ واذا كــان مــن طبيعـــة العصر او من طبيعة المجتمع والتاريخ التغير بدورات منتظمة أو فوضوية، سريعة او بطيئة، فكيف يمكن قياس هذه الوتائر كلها؟ بأية معايير؟ ثم، لو كنت من عمر هؤلاء الشبان والمراهقين، هل كنت سأنقل هذا «الحدث» بصورة اخرى؟
الامر الثاني: النجومية. من الذي «انتخب» أرمين فان بورين «رقم واحد في العالم»؟ هل هم انفسهم الذين يفتدون انفسهم من اجله؟ وما هي الاسس التسويقية لصناعة هكذا نجومية؟ وربح كل هذا المال؟ وهل الـ D.J. الاول، المحلي، واضع الموسيقى الأبعد عن الـ»دِجْ! دِجْ! دِجْ!»، والأقرب على ما يبدو الى «الترانس» غير الهابط… هل يصل هذا الـ D.J. يوما الى مستوى العالمية؟
• حفلة موسيقى «الترانس» للـ D.J. أرمين فان بورين
لقد قرأت مقالتك بالصدفه ,, و ذلك اثناء
بحثي في قوقل عند كتابه اسم الدي جي رقم
واحد عالميا,, اعجبتني مقالتك في مدح هذا
النوع من الموسيقى ,, لاني من اشد المعجبين
بالترانس و بأرمين تحديدا,,لذا فقد كان علي
ان اكتبلج هذه الرساله
تقبلي تحياتي
يوسف – الكويت