أحرجت أحداث غزة الرئيس الأميركي المنتخب بحيث لم يحدد موقفاً واضحاً من الصراع المندلع بتوقيت يكاد يكون مقصوداً من إسرائيل. فرغم أنها كانت سترد على صواريخ حماس التي انطلقت بعد رفضها تجديد التهدئة، فقد كان بإمكانها تأجيل هجومها أو القيام برد محدود إلى أن تتضح السياسات التي ستتبعها الإدارة الاميركية الجديدة، أو انتظار الانتخابات الإسرائيلية القريبة التي يمكن أن تعطي إشارات للسياسة التي تفضلها الأغلبية في التعامل مع مجمل المسألة الفلسطينية.
أحداث غزة تأكيد جديد على أن ستين عاماً من الصراع الدموي لن تقود إلى حلول وسلام دائم، وهو ما يجب البحث عنه في عملية استراتيجية سياسية، مدارة ومدعومة من المجتمع الدولي، تكتسب أهميتها من الامل بالوصول إلى حلول توقف العنف المتجدد كل بضعة سنوات، وهي ما ينتظر الرئيس الأميركي المنتخب في ولايته القادمة، وليس إعلان موقف من حرب غزة أو المطالبة بوقف إطلاق النار والعودة للتهدئة المؤقتة رغم أهميتها الراهنة.
العديد من الكتاب حاولوا توقع ما ستفعله الإدارة الجديدة برئاسة أوباما. والتوقعات كبيرة، بعضها ينتظر من رجل واحد أن يغير مسار العالم للأفضل أم للأسوأ، وهي مبالغة تهمل العوامل التي تفعل في السياسة الأميركية. فالرئيس عملياً ليس مقررها الوحيد حيث تتشارك في رسمها إدارات الخارجية والدفاع ومجموعات ضغط ومراكز دراسات وسلطة تشريعية ورأي عام وشركات كبرى وإعلام …
تغيير السياسة الخارجية ممكن عند متغيرات عالمية مثل نهاية الحرب العالمية الثانية أو نهاية الحرب الباردة أو حدث 11/9 كبداية لحرب ضد الإرهاب العالمي، وليس كلما انتخب رئيس جديد. لا ننكر الدور الشخصي للرئيس وخاصة أوباما، ولكن نرجح أن الاستراتيجية العامة الأميركية تغيرت إثر هذه الأحداث ولن تتغير الآن. فالجديد فيها أساليب تنفيذها، وهنا يأتي دور الإدارة الجديدة والرئيس وربما وزيرة الخارجية كلنتون التي لها مواقفها الخاصة، إلا أنها ستكون محكومة أكثر بكونها عنصر منفذ في سياسة يقررها في النهاية الرئيس.
يطرح أوباما في الداخل الأميركي مشاريع للتغيير في مجالات مختلفة، ويعد بأولوية التصدي لحل الأزمة المالية العالمية، إلا أن التغييرات التي ستطرأ على السياسة تجاه الشرق الأوسط هي الأكثر أهمية لنا وللعالم. سيوجه أوباما خطاباً للعالم الإسلامي بعد تسلم منصبه، وهي فرصة لإعادة إقلاع السياسة الاميركية وتحسين صورتها في المنطقة والمجتمع الدولي.
الخطاب قد يطمئن قطاعات واسعة إلى أن أميركا أوباما ستقوم بالتزاماتها الدولية بوسائل جديدة. وستتأكد مصداقية الخطاب في التنفيذ العملي السريع، لتعديل المسار في المسائل الشائكة التي أثرت في مدى تقبل السياسات الأميركية في المنطقة. يمكن للخطاب والإجراءات التي ستتبعه أن تكسب مؤيدين ممن أساؤوا فهم السياسة الأميركية أو تأثروا بممارسات الإدارة السابقة، ولكنها على الأرجح لن تستطيع كسب المعادين مسبقاً لأميركا- قبل وأثناء وبعد عهد بوش وما بعد عهد أوباما- دون النظر في مدى ملاءمة مواقفها للمصالح المحلية. وربما يكون من العبث دعوتهم للتريث قبل إصدار أحكامهم إلى أن تتضح سياسة أوباما، إذ سيفسروا كل خطوة أميركية على أن هدفها دعم أسرائيل.
لا شك أن الأوضاع في الشرق الأوسط متشابكة ومؤثرة في بعضها البعض، ولكن الحلقة الرئيسية المسببة لازماتها هي الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والمسألة الفلسطينية المستمرة بلا حل، معطية الذرائع للقوى المتطرفة لزعزعة استقرار المنطقة. ليس المطلوب من أوباما الانحياز للعرب في الصراع كبديل عن الانحياز التقليدي لإسرائيل، السمة المشتركة لجميع الرؤساء الاميركيين، ولكن نظرة واقعية تتفهم أن عدم التجاوب مع الحقوق الفلسطينية يعني بقاء الشرق الأوسط مجالاً لتوريط أميركا والعالم في صراعات لا تنتهي. يمكن لأميركا أن تنحاز للأطراف السياسية الإسرائيلية المعتدلة التي تريد حلاً وتعايشاً في إطار الشرق الاوسط، وأن تعمل للحد من أطماع القوى المتطرفة التي تدعم الاستيطان وتعتقد ان إسرائيل يمكنها فرض مواقفها بالقوة.
العرب من جهتهم بغالبيتهم المعتدلة أصبحوا مهيئين لحل تفاوضي يقوم على تنازلات متبادلة. فقد قبلوا بما كانت تعرضه إسرائيل: استعادة الاراضي المحتلة عام 1967 مقابل السلام والتطبيع، وهو ما تلخصه “المبادرة العربية” التي حظيت بموافقة عربية جماعية ورفضتها إسرائيل متخلية عن طرحها السابق. ويمكن لاميركا أوباما أن تلعب دوراً أساسياً في دعم المبادرة والإشراف على تطبيقها بالتعاون مع المعتدلين عرب وإسرائيليين قبل أن تفوت الفرصة وينهار الطرف العربي المعتدل لصالح قوى الإرهاب والعنف.
خلال نصف القرن المنصرم ثبت بما لا يقبل الشك أن أمن إسرائيل الذي يهم أميركا لا يمكن تحقيقه بالقوة العسكرية ولكن بالوصول لاتفاقات سلام كما حدث مع مصر. المطلوب من أميركا أن تتبنى حلاً عادلاً يقوم على الانسحاب إلى حدود 1967 مع تعديلات طفيفة وتبادل أراضي والقدس عاصمة لدولتين والسماح بعودة اللاجئين للدولة الفلسطينية وتعويضهم عن ممتلكاتهم في إسرائيل، وتذهب بهذا الحل للمشاركة بالمفاوضات كطرف فاعل وليس حيادي وتدفع للوصول لتوافقات.
الاهتمام بالمسألة الفلسطينية مباشرة من قبل الإدارة الاميركية سيعزز ما تركه انتخاب أوباما من انطباع متفائل في الشرق الاوسط. تفويت هذه الفرصة يعني المزيد من انتشار الإحباط والعداء للسياسة الأميركية وخلق الأزمات، وانتشار أكبر للحركة الاصولية المتطرفة وتوسع عملياتها ضد أميركا والعالم. لكن ليس من المحبذ انفراد أميركا في حل مشاكل المنطقة رغم دورها المميز بصفتها الأقدر على المساهمة في الحل، فالأمم المتحدة والمجتمع الدولي يمكنها تحمل مسؤولياتها مع تقديم حوافز للنهوض بالمنطقة التي أنهكتها الحروب المتتابعة.
الحل سيخلق ديناميكية جديدة تمكن من مواجهة المسائل الأخرى العالقة. ففي العراق لا يمكن لأوباما العودة لموقفه المعارض لشن الحرب، فالأوضاع تجاوزته ولم تعد هناك معارضة لسحب القوات من أي طرف، ولكن الخلاف على المدى الزمني، فالانسحاب السريع سيؤدي لتقويض الدور الأميركي في المنطقة ولمزيد من التهديد للأمن والاستقرار العالمي، وربما وقوع العراق تحت الهيمنة الإيرانية الكاملة، وتزايد المخاطر على الدول الخليجية النفطية فأطماع إيران في الخليج معروفة.
الانسحاب التدريجي “المسؤول” من العراق والتسليم المتتابع للعملية الامنية للقوى العسكرية العراقية هو الأسلوب الذي يحفظ ما تحقق حتى الآن، وخاصة تراجع العمليات الإرهابية والدعم الخارجي لها، وقيام حكومة عراقية قوية، وتحجيم القوى التابعة لإيران وخاصة جيش المهدي الصدري، وتلاشي إمكانية اندلاع حرب طائفية.. فالاتفاقية الأمنية التي حددت جدولاً زمنياً للانسحاب، لا تحتاج من الإدارة الجديدة سوى تنفيذها وعدم التسرع بالانسحاب قبل الموعد المحدد في نهاية العام 2011.
في خطاب أوباما أيضاً يمكن توقع إعلان بدء نشاط دبلوماسي منسق يوضح لإيران مدى الفوائد التي يمكن أن تجنيها من التجاوب مع الرغبة الدولية في وقف تخصيب اليورانيوم. ففي حملة أوباما الإنتخابية أكد على المحادثات المباشرة الثنائية مع إيران بلا شروط مسبقة، وفي حالة القبول منحها ضمانات أمنية وحوافز اقتصادية، وربما التعاون معها في العراق ولبنان. لكننا لا نتوقع الكثير من هذه السياسة بسبب تعنت الحكومة المحافظة، إلا إذا أتت الانتخابات القادمة بقيادة براغماتية واستعاد الشعب الإيراني دوره المحتجز لدفع حكومته للتخلي عن سياساتها الجامدة “الإلهية”.
ويمكن لأوباما في خطابه أن يعيد التأكيد على أن مكافحة الإرهاب لا يعني محاربة الإسلام، وأن يطمئن إلى أنه يدعم المفاوضات من أجل السلام بين سوريا وإسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من الجولان، وأنه سيشارك في تحريكها وهو أمر مهم لتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة وإسقاط الحجج التي تمنع لبنان من التفاوض لسلام دائم مع إسرائيل واستعادة شبعا. كما ينزع الذرائع من داعمي المجموعات المسلحة الفلسطينية الرافضة لأي حلول سياسية. ومن المهم تأكيد أوباما في خطابه أن لا صفقات مع أي نظام حول عمل المحكمة الدولية المختصة بجريمة قتل رفيق الحريري والمحكمة الدولية التي ستحاكم المسؤولين السودانيين عن مجازر دارفور.
لا نعتقد أن أوباما سيتخلى عن تأييد الإصلاح السياسي والديمقراطية في المنطقة، لكنه سيستفيد من تجربة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين لتأكيد اعتماد الوسائل السلمية فقط، بدعم المعارضات العاملة من أجل التغيير الديمقراطي، وهو طريق طويل وشاق إلا أنه أقل كلفة من التدخل العسكري الباهظ الثمن بالنسبة لشعوب المنطقة ولأميركا أيضاً. فالضغط على حكومات المنطقة بوسائل سياسية واقتصادية هو الأفضل مع تأكيد أن هذه الأنظمة ستشارك في العملية السياسية فيما لو اعتمدت الإصلاح وطبقته كما في المثال المغربي وليس العراقي. ندرك أن هناك تعارض بين مصالح أميركا في المنطقة وبين تشجيع عمليات التحول الديمقراطي، ولكن يمكن إيجاد حلول لا تضحي بالإصلاحات من أجل المصالح.
قد نكون متفائلين قليلاً بصدد برنامج أوباما في الشرق الأوسط وما سيجيء في خطابه، ولكن لننتظر لنرى.
ahmarw6@gmail.com
كاتب فلسطيني من سوريا