استضاف برنامج من العراق الذي تقدمه سهير القيسي على شاشة العربية الفضائية كلا من النائبين مثال الآلوسي والقاضي وائل عبد اللطيف، والهدف من الحوار كان بيان قانونية قرار مجلس النواب العراقي برفع الحصانة البرلمانية عن الآلوسي لزيارته إسرائيل، ولكن مقدمة البرنامج قادت الحوار باتجاه آخر لا علاقة مباشرة له بالموضوع الرئيسي مما استهلك أغلب وقت اللقاء وهو إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وإقامة المقارنة بينها وبين إيران، ثم أدخلت المحاورين إلى جدل تاريخي عن العداء العراقي الإسرائيلي نعرف تفاصيله جميعا. وقد حاول مثال الآلوسي عبثا توضيح وجهة نظره القائمة على أولوية المصلحة العراقية كما يراها على سواها، بينما حاول القاضي عبد اللطيف البقاء على الضفة الأمينة وممارسة أقصى دبلوماسية ممكنة لئلا يثير غضب الجارة الشرقية الكبرى وإن مسها قليلا وعلى استحياء، أما المقدمة فكان شغلها الشاغل العلاقات الدبلوماسية المزعومة التي لم يتطرق إليها أحد. ولعل العربية كما غيرها من وسائل الإعلام الغارقة في عقليات الخمسينيات والستينيات والتي أنشأت أجيالا من العراقيين والعرب على ما تسميه بـ”ثوابت الأمة” لم تجد الشجاعة الكافية لمناقشة جدوى تلك الثوابت وترتيب أولويات الشعوب، ولا لتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فها هي سهير تطالب الألوسي بأدلة على تورط مسئولين ونواب عراقيين بعلاقات مشبوهة مع إيران، وكأن الأمر يحتاج لأدلة ولم يعد يراها حتى رجل الشارع البسيط. وربما فعل طرد إيران لمدير مكتب العربية في طهران فعله وروض القناة التي لا تزال تخوض معركة الريادة مع الجزيرة التي يستند نجاحها إلى تقديم ما يريد المشاهد أن يراه لا ما يحرك عقله. سهير القيسي إعلامية متألقة في قناة جيدة، لا شك في ذلك، وبرنامجها من العراق يحظى بنسبة مشاهدة عالية بين العراقيين على الأقل، ولكن أن تكون إعلاميا جيدا في قناة جيدة لا يكفي لمعالجة موضوع بحساسية زيارة النائب مثال الآلوسي إلى إسرائيل والأزمة اللاحقة لذلك في البرلمان العراقي. ولا أدري إن كانت سهير هي معّدة المادة أم مقدمة لها فقط، ولكن لنا ما نرى على الشاشة فحسب.
يقودنا موضوع مثال الالوسي وما تبعه من جدل، إلى الإقرار بصعوبة تحرير العقل العربي من مسلمات باتت بمثابة العقيدة والتي تم تلقينها لهذا العقل عبر عقود طويلة وخلاصتها بأن تنميته وتعليمه والتحاقه بركب الحضارة مؤجل لحين تحرير فلسطين والقضاء على اليهود وربما فتح روما وقتل البابا كما يبشر بعض خطباء حماس، ولحين عودة الحضارة المجيدة لدى البعض والإسلام الأول لدى البعض الآخر، متناسين بأن التجربة التاريخية أثبتت بأن التعكز على الماضي لم يقم بنيانا، ولم يطعم جائعا وإن الشعوب التي أقامت مدنيات القرون الأخيرة إنما وضعت تأريخها في المتاحف للاستفادة من عبره وليس العيش والذوبان فيه، وبدأت تفكر بمنطق العصر فحسب . لقد بات العقل الجمعي العربي، نتاج تلك الثقافة التلقينية الغاسلة للأدمغة، بات أكثر من يستخدم مفردات التخوين في العالم أجمع، فما أسهل توزيع ألقاب الخيانة والعمالة يمنة ويسرة من السياسيين والمثقفين بل ومن رجل الشارع البسيط في بلادنا التي لا يوجد بها قضاء بمعنى الكلمة في حين قد تدخل مثل هذه المسميات في باب الملاحقة القانونية بتهمة القذف والقدح في أنحاء البسيطة الأخرى. قضيتنا الكبرى كانت دوما هي إسرائيل، لا الغذاء والدواء، ولا القمع والاستبداد، ولا الأمية المتفاقمة، ولا التخلف الصارخ، ولا احتقار المرأة، ولا انتهاك الطفولة، ولا الموت اليومي. وهذا مثال الألوسي، الذي لم يقتل ذبابة، ولم ينتهك عرضا، ولم يسرق مالا عاما، ولم يشارك في حفلات الذبح الجماعي، ولم يغص في وحل الطائفية، بل كان دوما الصوت العالي المعارض لكل ذاك، إلا أن ذلك لم يشفع له، فقد انتهك الناموس العروبي بزيارة إسرائيل، والناموس العراقي الجديد بإدانة انتهاك إيران لكل ما هو عراقي ابتداء من الأرض والثروات، وليس انتهاء بالأرواح بعد أن راكمت مجموعاتها الخاصة والعامة جثث العراقيين في طول البلاد وعرضها.
بالأمس تفاوضت مصر والأردن وأخذت تلتفت إلى إصلاح وبناء داخلها، واليوم السلطة الفلسطينية وسوريا ولبنان، وغدا إيران بل وربما حماس ذاتها، ويزداد صراخ الجزيرة في حين يتجول شيمون بيريز في أسواق الدوحة. هذه هي حقائق الحياة التي يجب أن نتعامل معها، والتي أراد مثال أن يضعها أمام العراقيين الغارقين في إيديولوجيات الكتب الصفراء، في عالم المستور فيه أكثر من المكشوف، يعطينا من المعلومات ما يريد لأننا لا نريد أن نرى ونسمع، بل نريد من العالم أن يصبح صدى لعقولنا. لا نقاش في عدالة قضية فلسطين، ولكنها بالتأكيد ليست قضيتنا الوحيدة اليوم، وليست لها الأولوية الواقعية لغير الفلسطينيين شئنا أم أبينا، رغم ركوب حكامنا لمطية فلسطين منذ أكثر من خمسين عاما لتأجيل البناء الداخلي والالتصاق بالكرسي الوثير أبد الدهر.
لم أر برلمانا واحدا في العالم لا يشغل نفسه بقضايا البناء والتنمية سوى مجلس النواب العراقي، ولا ألومه كثيرا فهو مجرد انعكاس للواقع العراقي المؤلم الذي لم يعد ترتيب أولوياته بعد رغم تعلله الطويل بالظلم والقمع. لم نسمع البرلمان يناقش انتشار الكوليرا بسبب انعدام المياه الصالحة، ولم يناقش تدفق السلع منتهية الصلاحية من كل أنواع الجيران، ولم يطالب الحكومة بالكشف عن القتلة الذين يقال إنهم اعتقلوا، فلا زلنا لا نعلم ولن نعلم. لم يطالب البرلمان الحكومة يوما بإعلان برنامجها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والخدمية، ولن يقوم بذلك لأنه ببساطة غير معني بهذه الموضوعات المثيرة للملل. فقبل أسابيع أقدم وزير المالية على اعتراف خطير على شاشات التلفزيون حين أعلن بأن ليس لحكومته أية خطة للتنمية تتعدى نهاية العام الحالي، وهذه قاصمة الظهر إن لم يتداركها العقل السياسي العراقي الغارق في مواريث الإيديولوجيات والجدل العقيم حول كل ما هو غير مجد في عالم اليوم القافز بقوة نحو التنمية الشاملة. فما تزال ذهنية “أغرف من بحر النفط و أغلق الثغرات” حاضرة بقوة كما كانت منذ عقود. والنفط مهما كثر ثروة ناضبة بمعايير الاقتصاد العصري، ولا يحتاج الأمر لعبقري ليخبر الحكومة و الأحزاب بأن الثروة النفطية يجب أن تكون أساسا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وليست بديلا عنها، وأن التنمية البشرية هي أساس الرقي الاقتصادي العصري، وأن الوزارات السيادية الأهم في دول العالم النامي هي وزارات التخطيط والتعليم والتعليم العالي والصحة والمياه والبيئة، وأن البناء يبدأ من وزارة التخطيط بمشاركة المجتمع المدني بعد رحيل زمن الدولة الأبوية الراعية التي تنفق على الجميع بعد أن تبيع ثروة بلادها بسعر بخس، وبأن العصر هو عصر المجتمعات التي تخلق ثرواتها بأيديها وعقولها. ونماذج التنمية الفعالة في العالم حاضرة بقوة، فها هي فيتنام التي تقود تنمية شاملة بمساعدة عدوها الأمريكي والغربي السابق، وهاهي كينيا وتنزانيا وعشرات غيرهما تحقق منجزات ونمو متصاعد، ولا مجال هنا للحديث عن ماليزيا وكوريا وسنغافورة واليابان ونمور آسيا والصين والبرازيل والأرجنتين التي باتت على أعتاب العالم الأول. فقط في هذا الجزء من العالم، نستخرج الثروة من الأرض ونبيعها لنأكل، وعندما يعود برميل النفط إلى العشرين والثلاثين دولارا عندما تقتضي السياسة العالمية ذلك، سنجد أنفسنا وقد تراجعت دخولنا إلى الربع ونتساءل عما نفعل.
علتنا، وهو ما يعتبره البعض محل فخر، بأننا كشعوب مسيسون بالكامل، فمن تراه يهتم بالبيئة والتنمية الحضرية والريفية، ومن ذا المؤهل ليخوض بحار الأرقام والإحصائيات وإعداد قواعد البيانات التي تعتبر أساسا لأي خطة تنموية، وهل سمعنا عن إقامة مؤسسات للبحث العلمي وإدماج الجامعات في صنع التنمية، بل وهل سمعنا حتى عن منظمة مجتمع مدني ناشطة في هذه المجالات بالعراق؟ فمنذ سقوط النظام السابق، بل وقبله، يدور الجدل حول السياسة والدين والديمقراطية والدكتاتورية والفدرالية والانتخابات والتعددية ، ليس على مستوى البرلمان والحكومة فقط بل وعلى مستوى الأحزاب والإفراد والإعلام، وكأن الهموم الأساسية والمشاكل القاعدية قد حلت جميعا، وبات الماء متوفرا والكهرباء فائضة والصحة والتعليم في مستوى نظيراتها العربية على الأقل. ولا أقول هنا بأن الجدل السياسي غير هام، إلا أن الغياب التام لمفهوم وثقافة التنمية على جميع المستويات، الثقافية والإعلامية منها قبل السياسية، ظاهرة مثيرة للقلق في بلد شبه مخرب من الداخل قبل أن يكون من الخارج.
على الحكومة والبرلمان في العراق أن تدرك كل ما هو كائن اليوم في العراق اليوم مؤقت وطائف، ومن هنا يجب أن يعمل الجميع للغد الدائم ببراغماتية تستند إلى رؤية واضحة حول العراق الذي نريد، ومن هنا أيضا يجب أن يعود الجميع إلى العراق من أجل ذلك الغد، وإلا حل أولئك المؤقتون محلهم وخلقوا واقعا جديدا كما يحاولون يوميا. فالتأسيس لعراق دائمي دولة ووطنا بات التحدي الحقيقي، فلن تبقى أمريكا ولا إيران في العراق إلى الأبد، فالعالم متغير تحكمه حلقة المصالح المتغيرة دوما، لمن يفهم قوانين التغيير.
skhalis@yahoo.com
• كاتب عراقي