معاناة الفلسطيني على الحدود والمعابر، حكاية تطول ولا تنتهي فصولها عند معبر رفح وما بعد رفح… معابر علّمت الفلسطيني كيف يدمن الصبر، ويحترف الانتظار، ويجترّ مرارته بصمت.
أمام مشاهد معبر رفح، الذي تناقلته الفضائيات، وعايشته قناة الجزيرة لحظة بلحظة، يشهد المتفرج، وكلنا متفرجون، سياسة الإذلال العربي الرسمي للانسان المطالب بأدنى حقوقه في الحياة. وتمنيت لو أن قناة الجزيرة قد وُجٍدت قبل ستين عاما، لتؤرخ وتوثّق تلك السياسة القائمة على الاذلال، والقامعة لكل المشاعر الانسانية، دون أدنى مبرر لذلك. معابرلا يقتصر دورها على الحصار والسجن، انما تعدّتهُ الى محاربة الأطفال بلقمة خبزهم اليومي، وبالقليل من الأوكسجين الذي يتنفسونه. شاهدنا الطفل الذي يضخّ له أهله الهواء بطريقة بدائية ودون توقف، مما استدعى عملا جماعيا تضامنيا من العائلة والجيران. ليت هذا الطفل يعلم أن أنظمته العربية هي أيضا مثلهُ تحيا بضخّ الأوكسجين في رئتيها من الذين يقطعون الهواء عنه.
عائلات مزقت وحيل بينها بالأسوار التي تمزق ما بين القلب والقلب..كيلو مترات قليلة تفصل الأخوة عن بعضهم، والوالدين عن أبنائهم، ولا سبيل الى اجتياز تلك المسافة، إلا بالأحلام وعبر الانترنت ، كما صرحت امرأة حرمت من أبنائها لسنين طويلة: ” كنت ألاقي اولادي كل ليلة على النت”. وبالنيابة عن تلك السيدة نشكر الكفرة الذين اخترعوا لنا ما يجعلنا نعبر الحدود و نتجاوز المعابر بدون خوف أو حاجة الى اقتحام. تلك اللقاءات التي لا تمنح الاحساس بفرح امسية نلتقي فيها العائلة، لكنها تطفىء الحنين ومشاعر الحرمان. حكايات متنوعة كشفتها الجزيرة، بعد أن كانت جراحا خبيئة لا تعني الا أصحابها.
مخيمات الفلسطينيين في لبنان
كان ذلك عام 1985.* حين وضعت معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تحت الحصار، وكان هناك أيضا معابر الرعب والذل، تفتح و تغلق بمزاج أصحاب القرار، الذين أطلقوا أيدي المنفذين لممارسة ما يحلو وما يتماشى مع نزعاتهم العنصرية والشيطانية، من ذبح وتجويع ونهب واستباحة أعراض، والسبب، أنك ولدت بهوية لا يُعترف بها هوية.
حكايات تلك المعابر، كانت بالألوان الطبيعية، الأحمر والرمادي والأسود، لون الدم والحرائق. من سمع عن معبر الموت وهو أحد معابر مخيم برج البراجنة؟ بالطبع لا أحد غير الذين عايشوا تلك المرحلة. فالتسمية جدا محلية. كان المسلحون يفتحون المعابر للنساء فقط، للخروج و التسوق، بعد أن يوقفوا عرباتهم المحملة بالخضار والفاكهة والمؤن، و بعد ان يخفوا بنادقهم في الخزائن الصغيرة في أسفل العربات. تخرج النسوة، يتسوقن ثم يعدن مهرولات من المعبر المحاذي لسينما بالاس، في الشارع الرئيسي لبرج البراجنة والمعروف باسم شارع جمال عبد الناصر، ولا ندري ان كان ما زال يحمل ذات الاسم. فتتراكض النسوة وقد ناءت اجسادهن بثقل ما يحملنه من الأكياس، باتجاه الأفواه الجائعة التي تنتظر بين أنقاض المخيم.. و لكن لا يصلن، لأن من كانوا بائعين قبل لحظات قد تحولوا الى هواة صيد و قنص، ويصطبغ المعبر باللون الأحمر.قضت النسوة بالعشرات على هذا المعبر و دفعن حياتهن ثمنا للقمة لم تصل الى أفواه أصحابها.
غزة…..رفح، العام 1948
أخبرني أحد الذين كنت أدوّن ذاكرتهم، قصة مفجعة، لم أصدقها و جعلتني ألهث خلف من عاصروا تلك المرحلة وكانوا كبارا أو فتيانا لأسمع منهم. وعندما كنت أسردها لأحد ما كنت أطلب تفسيرا لمثل تلك السلوكيات، وبضمنهم طبيب نفسي، الذي قلب شفتيه باستغراب كأنه غير مصدق. حدثني الحاج قائلا…خرجت من مدينة يافا بعد سقوطها عام 1948، ولأن غيبتنا لن تطول أكثر من خمسة عشريوما، فقد قررت الارتحال باتجاه غزة. جُمعنا في مكان خال، لا أثر للحياة فيه، الا الخيام التي نصبتها الأمم المتحدة. لا أثر، وحيث لا وجود للماء أو الخضرة فيها. كانت وجبة الغداء الرئيسية تأتينا كل يوم وفي وقت محدد وضمن طقوس معينة، حيث تأتي شاحنة قلاب كبيرة تابعة للجيش المصري، تدور دورات عدة حول الخيام المنصوبة وهي تطلق زمورا بنعيق متواصل، معلنةً وصول الطعام. فنحمل ما تيسّر لدينا من أوعية ندر وجودها، وننتظر توقف الشاحنة. كان الطعام في أغلبه خليطا من بقايا ما تناوله الجيش المرابط هناك. تقلب الشاحنة حمولتها على الأرض، فنتسابق لجمع الطعام الذي اختلط بالرمل، وعندما ننكب لجمعه، ينقض علينا الجنود السودانيون الذين كانوا في قوام قوات الحاكم المصري لقطاع غزة، بسياطهم يلهبون بها ظهورنا. وكنا في كثير من الأحيان نرسل الأطفال لجمع الطعام لأنهم أسرع منا وأقدر على التملص من سياط الجنود!!!!
أمثلة قليلة من كثير تزدحم به الذاكرة، ولا وقت لنبشه لولا أن سياسة الاذلال ما زالت قائمة وتأخذ أشكالا أكثر حدة و ألما. وللحديث بقية.
albakir8@hotmail.com
*كاتبة وروائية فلسطينية من لبنان
* حرب المخيمات هو الإسم الذي أطلق على المعارك التي دارت بين مايو 1985 ويوليو 1988 بين حركة أمل وبعض الفصائل الفلسطينية ضد الموالين لياسر عرفات حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. اندرجت الحرب في إطار صراع سوريا وحليفتها أمل ضد نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في لبنان. أدت المعارك إلى خروج قوات ياسر عرفات إلى مخيمات الجنوب, وإلى إحداث دمار كبير و تدهور للمعيشة للمتساكنين فيها (نقلاً عن “ويكيبيديا”).
معابر.. أم دروب جلجلة؟؟
الأستاذ شهاب الفاضل
المقال رائع وغني، ولكن تعليقك ذكرني بالمثل الذي يقول: ملقاش للورد ولا عيب قالو: يا حأحمر الخدين. وللكاتبة حنان أقول مقال رائع كصاحبته.
معابر.. أم دروب جلجلة؟؟
غريب ان يعتبر المقال عاطفيا. والاغرب من هذا ان لا يلمس في المقال غير عاطفيته. من لم يتحرك له ساكن أو عاطفة و هو يرى الفلسطينين يكسرون الحواجز لاقتناء الخبز. جوع الطفل والكهل الفلسطيني عارا على كل من يسمي نفسه سياسيا عربيا.
واقعنا العربي مر, وساستنا جبناء وفاشلين غربا و شرقا. والفلسطنيين ليسوا استثناءا.
أضعف الايمان أن نقول اللهم هذا منكر أو نصمت. والساكت عن الحق شيطان اخرس.
معابر.. أم دروب جلجلة؟؟الأستاذ شهاب العاطفة أن أنسجمت مع الواقع فهي مصدر أيجابي لتوكيد الموقف. والسيدة حنان سبق وأن كتبت عن الفلسطينيين ونقدتهم. رغم حبها وولهها بشعبها الفلسطيني. لكنها ان وجدت مظاهر سلبية في شعبهاا فلا توفر عليهم النقد كما فعلت في مقال سابق في الشفاف. وهي عندما تنقد الأنظمة العربية فليس ذلك موقف عاطفي ووجهة نظر. بل واقع حفيفي. والمنظمات الفلسطينية رغم وطنيتها ومشروعية كفاحها لكنها تستحق النقد جميعها بلا أستثناء. أساءوا للنضال الفلسطيني ولم يكونوا بالمستوى المطلوب فيه منهم أن يكونوه. وأرجوا منك أستاذ شهاب التمييز بين الأنظمة والشعوب. ليس للسيدة حنان أي نقد للشعوب بل للأنظمة فقط.… قراءة المزيد ..
معابر.. أم دروب جلجلة؟؟صحيفة “فايننشال تايمز”: سياسة دعم المستبدين خطرة كاللعب بالنار نشرت صحيفة فايننشيال تايمز افتتاحية تحت عنوان “سياسة دعم المستبدين معادل للعب بالنار”، ذكر فيها ان الازمتين في كل من باكستان وكينيا فجرتا موجة من الانتقادات حول العلاقات البريطانية مع مستعمراتها السابقة، وبصفة عامة حول العلاقات بين الغرب من جهة وبين آسيا الوسطى والشرق الاوسط وجل افريقيا من الجهة الاخرى، وهي العلاقات التي يستفاد منها الدرس المحوري الآتي: ان دعم الاستبداد والتهاون مع الفساد في هذه الاقاليم لم يشجع الاستقرار كما كان يعتقد، بل افرخ التطرف ودول فاشلة، وترى الصحيفة انه برغم الوضوح الساطع لهذا الدرس، فلا يزال… قراءة المزيد ..
معابر.. أم دروب جلجلة؟؟
مقال عاطفي و مؤثر يا سيدتنا و بما انك فلسطينية فانني افترض ان كل الأنظمة العربية في نظرك خونة اذلاء و عملاء الا دكاكين السياسة و المنظمات الفلسطينية المؤجرة لسلاحها في كل الاتجاهات والتي نالت بالتآمر من كل نظام اختلفت معه على القسمة على حدة الا من جمعها في اكواخ و ضرب عليها الطوق و استخدمها سلاح يهدد به كل دولة لا تدفع الأتاوه مما شتت المقاومة الحقه و فرض الحصار على اطفال لا ذنب لهم الا ان اباءهم مشغولين في التنبؤ من سيصل الى الكرسي استعدادا لتغيير الولاءات.