باستثناء الأسباب المباشرة التي أدت الى حدوث شرخ واسع في العلاقة بين الأكراد وتركيا، وعدا عن ان الحروب المزمنة (تارة تصعيدية وتارة بطيئة) لم تنته بين العمال الكردستاني والدولة التركية، هناك عدد من الأسباب وراء افتعال الأزمة بين الأكراد وتركيا .
الأول: العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة. إذ تشهد هذه العلاقة عدم توازن منذ الحرب الأمريكية على العراق خصوصا عندما رفض البرلمان التركي السماح بمرور القوات الأمريكية على أراضيها، الأمر الذي كلف الأمريكان الكثير. فالقرار التركي الذي اعترف اردوغان نفسه بان “تركيا أخطأت” باتخاذه مضيفاً :” ليت الزمن يعود ثانية” كان سببا لتطول الحرب بسبب صعوبة فتح الجبهة الشمالية ضد الجيش العراقي .
الثاني : الصراع الداخلي بين المؤسسات(المدنية والعسكرية) التركية من جهة، ومن جهة أخرى محاولة حثيثة من قبل حزبي (الشعب الجمهوري، والحركة القومية ) لإفشال الإسلاميين في الحكم. فمن يراقب الضجة الإعلامية والخطابات المعارضة يلمس بان هناك تحريضاً واضحاً من قبل الأحزاب (العلمانية) ضد “العدالة والتنمية”. وتوظّف هذه الأحزاب الأحداث الاخيرة بين أنصار العمال الكردستاني والجيش لإيصال “العدالة والتنمية” الى مأزق وطني ومن ثم إفشاله من خلال دفعه لمغامرة غير المعروفة العواقب.
الثالث:يتعلق بمشروع اردوغان وغول لتحقيق المواطنة الحقة في تركيا، ظناً من المعارضة أنه بعد الزيارة التي قام بها الرئيس عبدالله غول الى المناطق الكردية ووعده للأكراد بان “الزمن الاضطهاد الكرد قد ولى”، فإن القيادة الإسلامية الجديدة تسير على خطى الرئيس التركي توركوت أوزال. بمعنى آخر ان تركيا تنحو نحو حل للقضية الكردية. والحق ان الجيش لا يريد ان تحل القضية الكردية، ليس كرها بالأكراد وإنما لأن بقاء القضية الكردية معلقة بدون حل يرفع من شأن الجيش فيتخذها مطية لبقاء هيبته بحجة الحفاظ على العلمانية والأمن القومي التركي”المهدد من قبل الانفصاليين والإرهابيين الأكراد”.
الرابع : وهذا الاحتمال وارد جدا، وهو ان اردوغان نفسه يريد ان يفتعل الأحداث ويوظفها. فتهييج الشارع له ضرورة قبل الاستفتاء على تعديل الدستور لكي يتم ترشيح الرئيس مباشرة من الشعب مع تقليص مدة الرئاسة. خصوصا أن المعارضة تسعى للحؤول دون إجراء أي تعديل في الدستور.
والحق أن الأكراد اعتادوا ان يدفعوا أثمان الصراعات والخلافات الداخلية بين أقطاب الحكم في تركيا.
استطرادا ان ما يجري اليوم سببه الوضع تركيا الداخلي خصوصا بعد الفوز الكاسح الذي حققه حزب اردوغان الإسلامي، وكذلك انتصاره على المعارضة بإيصاله عبدالله غول الى الرئاسة. فالنخبة السياسية في “العدالة والتنمية” تعرف ان المرحلة الحالية تسير على غير مصلحتها، وتعرف أيضا ان ما يجري اليوم يخدم بشكل من الأشكال المعارضة (حزب الشعب الجمهوري، والحركة القومية)، وان التركيز الإعلامي على قتل الجنود الأتراك والأسرى هو نوع من الحرب الداخلية المقصود بها حزب “العدالة والتنمية” ومستقبله. ويعرف العدالة والتنمية أيضا كم ان هذا الوضع المتوتر يؤثر على مشروعه الإصلاحي ويرفع من سلطة المؤسسة العسكرية ويقويها…
هذه الحقائق أصبحت معروفة لدى الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) ولدى المعارضة التي تتعامل معها بذكاء ودهاء! وقد يسأل السائل ما هي الحقائق غير المعروفة؟ في الحقيقة ان ما يجري اليوم ينعكس سلبا على وضع تركيا أوروبيا. ويراد من هذه الجعجعة ان تلغى كل التفاهمات بين تركيا والاتحاد الأوربي – من المعروف ان العدالة والتنمية هو الذي استطاع يوصل بلده الى هذا المستوى من العلاقات مع الاتحاد.
ثمة من يرى بان الوقائع سوف لن تترك لاردوغان (وكذلك عبدالله غول) ان يتمعن في هذه الحقائق. فضربات المدفعية الى داخل إقليم كردستان، وحملات التمشيط التي يصر الجيش التركي على استمرارها، كلها عوامل تثير الانفعال لدى العمال الكردستاني وتدفعه الى المواجهة. فاللغة الحرب هي سيدة الموقف بين تركيا والأكراد. ولعل الخطأ في هذه المعادلة هو ان اردوغان أو احداً من حكومته لم يعلن عن موقفه من أكراد العراق ومن مواقفهم، ولم يعلق على أحاديث البرازاني الذي يدعو الى الحوار المباشر. فاذا كان الأتراك ينتظرون من الأكراد العراق ان يسلموا قيادات العمال فهذا لن يحدث لأن الواجب الأخلاقي يفرض عليهم ان يمتنعوا عن ذلك. الحقيقة الوحيدة أمام الأتراك هي أما الهجوم او الإنصياع الى لغة الحوار. في الخيار الثاني يمكن الاستفادة من الأكراد خصوصا إنهم يريدون لعب دور الوساطة بين العمال الكردستاني والحكومة التركية. ولعل لهم تجربة في هذا الحقل- وساطة جلال الطالباني بين توركوت أوزال رئيس تركيا الراحل و عبدالله أوجلان في أواخر الثمانينيات القرن المنصرم.
ولا نستغرب بان مطالب العمال الكردستاني غير تعجيزية. فهو(العمال) يطلب العفو العام مقابل ترك السلاح، وتحسين أوضاع عبدالله أوجلان، والسماح لهم بالمشاركة السياسية، وان تقوم الحكومة بالتنمية في جنوب شرق تركيا.
ثمة من يرى بان الأكراد العراق لا يستطيعون فعل شيء مما يريده الأتراك منهم، مثل تسليم القيادات او شن الحرب ضدهم، فهذا يعتبر بمثابة مطالب تعجيزية يفهم الأكراد منها بأن مرادها منهم هو شن الحرب بالوكالة.. لزمن الحرب بالوكالة ولى لدى الأكراد دون رجعة.
بقي القول ان كل المؤشرات تدل على أن الهوة تتسع بين الأكراد وتركيا، وان بقاء تركيا في خيارات الأزمة لا يخدم المرحلة. ينبغي على حكومة اردوغان اتخاذ قرارا ينعكس إيجابا على مصلحة تركيا وعلى مصلحة العراق. فالحوار هوالسبيل الناجع وهو الذي يفتح الآفاق ويمنع الوضع من الانزلاقات. فالدعوة الى الحوار لا تحتاج لانتظار اللقاء ببوش الذي يأمل اردوغان ان يخرج بنتيجة لصالح تركيا، او انتظار انعقاد مؤتمر دول الجوار العراقي في اسطنبول في(22-23) من تشرين الثاني المقبل.
faruqmistefa@hotmail.com
سوريا