منذ أسابيع قليلة أعلنت حركة الإخوان المسلمون في مصر برنامج عمل يعكس رؤاهم لما ينبغي أن تكون عليه مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر من منظور إسلامي. والحقيقة أن البرنامج لم يترك شيئاً إلا وتعرض له في إطار من المبادئ العامة دون الدخول في التفاصيل وعلى سبيل المثال فإنه في مجال عرض السياسات الاقتصادية يقول البرنامج أن مرجعية النظام الاقتصادي ستكون إسلامية وتتمثل غايته في “عبادة الخالق بالمعنى الواسع بحيث يتم النشاط الاقتصادي من خلال السوق الإسلامية التي تعتمد على المنافسة العادلة وحرية اقتصادية مقيدة تحكم إنتاج “الطيبات” من خلال قوى العرض والطلب وميكانيكية الأثمان” ولم أدرى ما الفارق بين هذه السوق الإسلامية الافتراضية وبين مبادئ اقتصاد السوق الغربي الذي يقوم أيضاً على المنافسة الكاملة وقوى العرض والطلب والثمن‘ ومما يدل على أن البرنامج جاء كإطار عام يثير الكثير من الأسئلة الفنية الصعبة، أنه قد تم عرض كل من السياسيتين المالية والنقدية في أقل من صفحتين وكنت أتمنى ـ كدارس للاقتصاد الغربي ـ أن يسهب برنامج الإخوان قليلاً في مسألة ماهية النظام الاقتصادي الإسلامي غير ما قيل عن أن غايته محاربة الاستغلال والاحتكار والغش ومراعاة احتياجات الفقراء، فالاقتصاد الغربي أيضاً يحارب الاستغلال والاحتكار والغش ويقدم الدعم والإعانات للفقراء والعاطلين. ولعلي أعرض مستقبلاً وبشكل أكثر تفصيلاً رؤى برنامج الإخوان لعملية التنمية الاقتصادية من منظور إسلامي خاصة ما ورد بخصوص وجوب اتفاق الأنشطة السياحية للسياح الأجانب مع مبادئ وأحكام الإسلام وكذلك ما ورد بخصوص أن اتفاقيات التجارة الحرة مع الغرب تكرس التبعية ولا تخدم اقتصادنا . وحقيقة فإننا نخشى أن يكون لهذه الرؤى آثار خطيرة على الاقتصاد المصري الذي يعتمد بشدة على السياحة كما أنه بحاجة ماسة للمزيد من الاستثمارات الأجنبية التي تأتى غالبيتها عن طريق اتفاقيات التجارة الحرة .
ومرة أخرى فإن برنامج الإخوان المشار إليه لا يهدف فقط الي أسلمة الاقتصاد المصري ولكنه يهدف لأسلمة السياسة والمجتمع والثقافة وكل أنواع الفنون وعلى سبيل المثال فإن البرنامج يدعو إلي أن تركز الأغاني على الغناء الديني والفولكلوري، كما أنه تعرض أيضاً لنوعية الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي ينبغي أن تنتج .
ولعل أخطر ما ورد في البرنامج ما يلي :
(1) ما ورد بخصوص أنه يجب على كل من الرئيس والسلطة التشريعية أن يطلبا رأى هيئة من كبار علماء الدين على أن تكون هذه الهيئة منتخبة من علماء الدين أنفسهم ( وليس من الشعب الذي يفترض أن يكون مصدر كل السلطات ) وينص البرنامج أيضاً على أن رأى هذه الهيئة الدينية سيكون هو الرأي الراجح ويكون للسلطة التشريعية حق التصويت على رأى الهيئة . وباعتبار أن الإخوان ستكون لهم السيطرة على السلطة التشريعية بالتأكيد فإن عملية التصويت هذه ستكون عملية شكلية لا قيمة لها.
وتكون المحصلة العملية لما ورد في هذا السياق هو إقامة نظام سياسي مطابق لنظام ولاية الفقيه آية الله العظمى في إيران حيث يسيطر خامنييء عل كل مقاليد الحكم وبمعنى آخر فان الأمر سينتهي بان تحكم مصر من خلال مكتب المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين في مصر السيد مهدي عاكف وبهذا تنتقل مصر من ديكتاتورية مبارك وأسرته الي ديكتاتورية عاكف وبطانته ووداعاً لمبدأ استقلال السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية .
ولو أننا عدنا قليلاً الي الوراء لاستعادة بعض التصريحات السابقة للسيد عاكف لوجدنا تطابقاً مدهشاً بينه وبين الرئيس الايرانى أحمدي نجاد فالاثنان يدعوان الي إزالة إسرائيل من الوجود والي مواجهة حاسمة مع الغرب المستغل والمحتل، وعادة ما يفترض في السياسي المحنك الا يجاهر بأهداف من هذا النوع على الملأ وينشد عداء العالم كله وهو بعد في مرحلة هوان اقتصادي وبطالة طاحنة ومعدلات فقر متزايدة يعانى منها شعبه . والسؤال من الذي أعطى السيد عاكف حق الوصاية على مصر وأبنائها؟ وكيف سنحاسبه وقد وضع نفسه في موقع المعصوم الذي لا مرجعية له ولا يسال عما يفعل من خلال هذه اللجنة المقترحة التي سوف تكون فوق الجميع بما فيهم السلطة التشريعية والمحكمة الدستورية العليا !
(2) ومن أخطر ما ورد في البرنامج أيضاً ما ورد بخصوص مبدأ المواطنة حيث ينص البرنامج على أن جميع المواطنين من أبناء مصر سيتمتعون بحقوق وواجبات متساوية وهذا كلام رائع ولكن البرنامج يناقض هذه المقولة بعد قليل فيقول ما معناه أنه بما أن من واجبات منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حماية الدين وبما أن مصر دولة إسلامية فإن هذه المهمة تتعارض مع عقيدة غير المسلم، مما يجعل غير المسلم معفي من القيام بهذه المهام طبقاً للشريعة الإسلامية !! وهو بهذا يستبعد الأقباط المصريين من تولي هذه المناصب بشكل لبق وكأنه يقدم لهم خدمة جليلة من خلال هذا الإعفاء.
إذن أين المساواة؟ والأخطر من هذا أن هذا الحكم الشرعي يمكن أن ينسحب على مهام أخرى غير مهام رئاسة الدولة التنفيذية، فالمسئولون عن السلطات التشريعية والقضائية لابد أن يكونوا أيضاً من المسلمين لأنهم وفق هذا المنطق سيشرعون ويقضون في دولة إسلامية ومن ثم فإنه لا يصح أن يتولى أقباط مصر أيا من هذه المناصب، وبهذه الأحكام التعسفية فان المرشد العام يرى أن على الأقباط إما أن يشدوا الرحال ويتركوا مصر أو أن يقبلوا أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، وهذه سقطة كبيرة في برنامج عمل الإخوان المسلمين.
وكما هو معروف فان حركة الإخوان المسلمين تضم مجموعة كبيرة من علماء وأساتذة جامعيين من خيرة أبناء مصر والسؤال كيف سمح هؤلاء بتضمين برنامجهم نصاً كهذا؟ ولماذا يساهمون في تفتيت وحدة أبناء مصر في مواجهة نظام حكم مبارك وأسرته الذي نعانى جميعاً من استبداده وفساده؟ الا يدفع الإخوان المسلمون بهذه البرنامج أقباط مصر وأمريكا وكل الغرب الي تأييد سيناريو توريث مصر الي ابن الرئيس بدعوى أنه أحلى الأمرِِِّين؟ لقد بدأ بعض إخواننا من المثقفين الأقباط والكنيسة القبطية بعد اطلاعهم على برنامج الإخوان في الدعاية لجمال مبارك على أنه قائد المستقبل وقائد التنوير والتقدم بالرغم من علمهم أنه لن يكون الا امتداد لنظام استبدادي فاسد ولكنه الخوف مما هو أخطر، انه الخوف من الفكر الظلامى والاضطهاد المعنوي والتميز الديني.
وبعد فلقد سعدنا جميعاً بالتقدم الذي أحرزه الإخوان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وحصولهم على 88 مقعداً في مجلس الشعب وكنا نتمنى أن يحصدوا المزيد من المقاعد لكسر احتكار حزب مبارك لكل السلطات وكنا نأمل أن نشهد على أيديهم بداية لتداول السلطة والانفتاح على كل طوائف المجتمع ولكن هاهم يضيعون كل شيء بأفكارهم الرجعية التي سيدفع ثمنها المصريون من مسلمين وأقباط هاهم يطعنون وحدتنا الوطنية طعنة نجلاء ويدفعون بسيناريو توريث مصر خطوات طويلة الي الأمام من خلال هذا البرنامج الذي كان بمثابة هدية غير متوقعة لنظام حكم أسرة مبارك.
لماذا تفعل بنا هذا ياسماحة المرشد العام سامحك الله؟
مستشار اقتصادي مصري
Mahmoudyoussef@hotmail.com