منذ بضعة أيام قررت إدارة فندق «كراون بلازا» البيروتي الغاء مؤتمر صحافي لإحدى المنظمات الانسانية والحقوقية الدولية («هيومن رايتس ووتش»)، كان مخصصاً لعرض تقرير حول مخالفات ارتكبها «حزب الله» لمعاهدات جنيف الخاصة بالمدنيين في زمن الحرب. هكذا، فجأة، تبخّر المؤتمر، وأكدت ادارة الفندق انها لم تكن «مطلعة على مضمونه». وعندما «علمت» ألغته، فـ»اقتضى التنويه»…
كيف تم الغاء المؤتمر الصحافي؟ بأي قرار؟ من الذي اصدره؟ ام ان مجرد الايعاز او الايحاء أو «النُصح» تكفّل بذلك؟ كيف بلغ ادارة الفندق فحوى التقرير؟ لا شيء واضح كالعادة. انه شغل كواليس وتكهّنات… وطبعا شائعات.
المهم انه ما أن أُلغي المؤتمر حتى انهال على المنظمة الدولية وابل الادانات والاتهامات والاستنكارات عن تقريرها الممنوع من البثّ. فجأة ايضاً، وارتفع شعار «عدم المساواة بين الضحية والجلاد»، و»اعتزم أهالي ضحايا حرب تموز بالاضافة الى عدد من المنظمات الشبابية والطلابية وهيئات المجتمع المدني»، لا بل «هيئات حقوق انسان»، التحضير «لتحرّك إحتجاجي» لما يمثله المؤتمر الصحافي للمنظمة الدولية من «اعتداء على مشاعر اللبنانيين». وتلى ذلك جملة من ردود الفعل لدى المجتمع السياسي: صحيفة «مقاوِمة»، أو «ممانِعة»، أجرت مقابلة مع سارة ليا ويتسون، المديرة التنفيذية للمنظمة الدولية هي أشبه بتحقيق، أو بتفتيش في الضمائر: «ما هو موقفكم من «حزب الله»؟»؛ أو «لماذا لم تتبنّوا تسمية «المقاومة» أو «المقاومة الاسلامية» للحديث عن «حزب الله»؟»؛ «هل هناك اي تصريح من قبل «حزب الله» يهدد فيه المدنيين؟»؛ «لماذا يَقتلون فلا يحاسَبون فيما نَقتل فنُحاسب؟»؛ «لماذا اخترتم البدء بالتقرير المتعلق بالمدنيين الاسرائيلين؟»… (واضحٌ من الاسئلة الاخيرة للمحقّق انه لم يقرأ التقرير). ومن اجابات المديرة ذات الدلالة: «الجميع يكرهنا (…) الاسرائيليون يعتبرونا عنصريين معادين للسامية. والعرب المسلمون يعتبرونا صهاينة». ثم يأتي دور قناة «المنار» التي خصصت حلقة خاصة للموضوع، حيث الاتهامات والاستنكارت المكرّرة… وقد مُنع اعضاء المنظمة من الردّ على الاتهامات. تقول سارة، المديرة نفسها: «متلقِّي الاتصالات لم يسمح لنا بالحديث «على الهواء» بينما كانت الاتصالات تتهافت من المواطنين على القناة للتنديد بالمؤتمر وبالهيومن رايتس ووتش». ثم، أيضاً، قافلة النواب المندّدين والشخصيات العامة، ومن أغربهم محامية باتت معروفة بهكذا نوع من التحريض والتعبئة. تقدمت بدعوى الى النيابة التمييزية باصدار توقيف نديم حوري (باحث في المنظمة) «المتعاون مع المنظمة»، هو الذي يعرف بأن هناك عضوين اسرائيليين فيها… معتبرة، كالعادة، ان هذا التقرير «مؤامرة» ضد «حزب الله»، واعدة بملاحقة لا هوادة فيها للمنظمة الدولية، «حتى لو تبيّن بأن المنظمة دانت حقا اسرائيل» (واضح انها هي أيضا لم تقرأ التقرير). بروفيل هذه المحامية: تقدم نفسها بصفتها «عضوا في المنظمة العالمية لحقوق الانسان»، او هكذا تقدمها صحيفة «الثورة» السورية (4-5-2006)؛ تشارك في مؤتمر يؤكد ان اغتيال الحريري «عمل اميركي»؛ تؤيد ترشيح بشار الأسد لولاية «دستورية» اخرى، وتصفه بـ»الزعيم العربي القادر على مواجهة الصعاب»؛ ترفع دعاوى ضد بوش وبلير، ضد سمير جعجع، ضد عبد الحليم خدام… بروفيل القضايا هو بروفيل خطباء الابتزاز بالقضايا العادلة… وهذا ما حدا بنديم حوري نفسه الى المقارنة: فالاتهامات الموجهة اليه والى منظمته هي «نفسها الاتهامات التي يرفعها النظام السوري ضد السجناء السياسيين» (9-6-2007).
اما الحكومة اللبنانية فلا حول ولا… رئيسها فؤاد السنيورة، أبدى «إنزعاجا شديداً» من مؤتمر المنظمة الدولية، ورأى أنه كان «الأجدى لها ان تبدأ باسرائيل لإبراز جرائمها»…
التقرير العتيد يتهم «حزب الله» صراحة بأن صورايخه، العشوائية اساساً، كانت معدّة لقتل الاشخاص لا اختراق المعادن السميكة. وبأن حصيلة ضحاياه 43 قتيلا مدنيا و12 عسكريا اسرائيليا. تحلل المنظمة أقوال حسن نصر الله، فتجد فيها تأييدا وحماسا للنيل من حياة المدنيين الاسرائيليين. حول تبريرات «حق الضعيف»، العسكرية، تذكر المنظمة أن واجبها فقط هو السهر على احترام المعاهدات الدولية عن المدنيين اثناء الحروب، لا رسم استراتيجيات دفاعية.
يذكر التقرير جرائم اسرائيل ثلاث مرات ويلحظ عناوين التقارير الاخرى التي أعدها حول انتهاكات اسرائيل (راجع موقع المنظمة).
حرمان المنظمة من التفاعل مع اعلام البلد الذي كتبت عنه تقريرا يعيد الى الواجهة تناقضات «المقاومين» وتهافت حججهم:
الاعلام الاسرائيلي يصلح لإثبات رغبة «حزب الله»، بأن تكون حربه في تموز (يوليو) العام الماضي مكلّلة بـ»الـنصر الالهي». وكل الردود على ناكري هذا الانتصار تستند الى ما يصفه الاعلام الاسرائيلي بالخيبة او الفشل او التقصير او الغفلة… حيال حرب تموز، فيترجمه «حزب الله»، ونقلا عنه دائماً، بـ»النصر الاستراتيجي والتاريخي». اما اذا جاءت منظمة حقوق انسان، دولية ومحايدة، واتهمت «حزب الله» بإرتكاب جرائم حرب، شغّل «الحزب» آلته، فاتهم المنظمة بـ»الصهيونية» وربطها بـ»اليهود»، وبـ»المؤامرة» الخ…
ايضا: طالما ان «حزب الله» انتصر على اسرائيل، فيما توقع لها احمدي نجاد الزوال القريب بعد هذا الانتصار، فكيف يبقى هذا الحزب «ضحية»؟ هذا لو افترضنا أن المعركة التي
أشعلها، «إستباقياً»، ضد اسرائيل ارتبطت بصفته كـ»ضحية»؟
ثم لنقر بذلك: ألا يمكن أن يكون في الضحية نفس الشر الذي في جلادها، خاصة عندما يلتحمان في القتال؟ ام ان الضحية قديس منزّه فوق الحساب؟
وهذا ما يفضي الى ان «الضحية»، بصفتها ضحية، ستحمل في بذورها صفة الجلاد في ما لو تخلّت، إبان معاركها، عن الصفة الانسانية. هكذا تدخل في السلسلة التي لا تنتهي: فبعض ضحايا الأمس القريب، من يهود المحرقة النازية، تحولوا الى جلادي المشرق العربي (الا اذا اصرّ «المقاومون» على الاستمرار في تصديق نظرية أحمدي نجاد حول عدم حصول المحرقة…).
بعد حقوق الوطن، ها هم «المقاومون» يهدرون حقوق الانسان ويبتزونكَ بالصمت عن ذلك. وإلا فتهمة الخيانة والعمالة تحت إبطهم…
dalal_el_bizri@hotmail.com
الحياة
مواضيع ذات صلة: