قد يكون لدى متنيّين كثيرين، ولدى لبنانيّين أكثر، عشرات المآخذ على أمين الجميّل. ولا شكّ، كذلك، في ان اللغة التي تقول «هذا المقعد لعائلتنا» سقيمة وقرويّة تصيب سامعها بالغثيان.
مع هذا، تحظى انتخابات المتن، الأحد المقبل، بخصوصيّة تميّزها وتتجاوز، في أثرها، رقعتها الجغرافيّة. فهي تجري بعد اغتيال النائب بيار أمين الجميّل لملء مقعد شغر بذاك الاغتيال، ما يعني أن التصويت لمن يمثّل خطّه، أكان أباه أم لم يكن، رفض للاغتيال ولـ «سياسة» القتل. والتتمّة المنطقيّة، في المقابل، أن إلحاق الهزيمة بالخطّ المذكور تزكية للقتل وللسعي إلى سَوق لبنان بالعبوة والمسدّس.
لكنْ هل تنوي فعلاً أكثريّة المسيحيّين في المتن أن تزكّي «الخيار» هذا؟
لنقل، بادئ بدء، إن المعركة تلك مفصليّة، ليس فقط لانبثاقها من اغتيال سياسيّ، بل أيضاً بسبب موقع المتن، اجتماعاً وسياسةً وتعليماً، عطفاً على صدور رئيس الجمهوريّة عنه. فالتصويت هناك، إذاً، لا يرسم صورة عن هوامش المسيحيّين، بل ينقل لوحة عن مواقع تقريرهم. وهي مواقع منقسمة في زمن تحفّ بلبنان احتمالات تثير الرهبة حقّاً.
فالتصويت تزكيةً للقتل خطير، في هذا المعنى، إذ ينمّ عن أن أكثريّة المسيحيّين، الفاعلين والناشطين، تمنح أولويّتها لشيء آخر غير الردّ على القتل و «سياسته». فما هو هذا الشيء الآخر؟
تجيب عن السؤال خطب ميشال عون وتصريحاته التي تربط حركة خصومه بقريطم، أي بسعد الحريري، وذاك بعد حملة متّصلة ضدّ السنّة اللبنانيّين وسعيهم الى «أسلمة لبنان».
وهو نهج لا يكتفي بتغيير الأولويّات على نحو مثير للشبهة، بل يختار الكراهيّة مدخلاً الى «السياسة» والضدّيّةَ شكلاً أوحد في التعبير عنها. وهو ينمّ، قبل هذا، عن غلبة الوعي التجمّعيّ والطائفيّ لدى مسيحيّي عون على أيّ احتمال وطنيّ جامع. فحين لا يُقيمون أيّ اعتبار للّبننة السياسيّة التي أصابت الطائفة السنيّة، وآخر علاماتها الموقف من الجيش، يذهب تفضيلهم الى «البقاء وحدنا ولو في الخطأ» على «الوقوف مع غيرنا في الصواب». ذاك أنه بدل استقبال تحوّل كهذا يقرّب السنّة من الموقف التقليديّ للمسيحيّين، يُصار الى توكيد الاستئثار المسيحيّ لذاك الموقف وامتناعه على سواهم. ومؤدّى السلوك الموصوف أن اللبنانيّة إمّا أن تبقى سلعة طائفيّة على نحو حصريّ أو ألاّ تكون.
ويفوت الموقفَ هذا أن ما يجمع بـ «تيّار المستقبل» يتعدّى التسليم بوحدة جهاز الدولة ووحدانيّته كطرف مسلّح، وبالرؤية العريضة للمسائل الإقليميّة والاستراتيجيّة التي يُعنى بها لبنان، وبارتباط هذا الأخير، اقتصاديّاً وخدميّاً وفرص عمالة، بالعالم العربيّ، لا سيّما منطقة الخليج. فإلى ذلك كلّه، تتشارك النخبتان المسيحيّة والسنيّة في التسليم بقدر من الحداثة، في الشأنين الخاصّ والعامّ، قد لا يكون كافياً، غير أنه ضروريّ لضمان الفصل بين الحياتين الخاصّة والعامّة وبين تحكيم الدين والفتوى فيهما.
ولمعترض ان يعترض بالقول إن الجماعات السلفيّة والجهاديّة السنيّة خطر على المسيحيّين، وان بعضها يقيم في الفناء الخلفيّ لـ «تيّار المستقبل». وهذا، على صحّته النسبيّة، لا يلغي أن الجماعات المذكورة لا تحتلّ في طائفتها أيّ موقع قياديّ، وأن محاصرتها لا تتحقّق إلاّ بالانفتاح على القوى السنيّة الأكثريّة غير السلفيّة وغير الجهاديّة. أما العكس، فلا يتأدّى عنه غير إضعاف معتدلي السنّة وتعزيز السلفيّين والجهاديّين، ومن ثم تحكيمهم في طائفتهم على النحو الذي يتحكّم فيه «حزب الله» في طائفته الشيعيّة.
وبدوره، لا يستطيع «التفاهم» مع «حزب الله» أن يشكّل قرينة على لاطائفيّة عون إلا بالقدر الذي يشكّل فيه قرينة على لاطائفيّة «حزب الله». فنحن، هنا، حيال تطلّعين راديكاليّين وضديّين ينفي أحدهما الآخر، تطلّعين لا يجمع بينهما إلاّ الوهم من طرف عون وخطّة الحزب المذكور: إذ هل يعقل في من تنحصر آفاقه في بضع قرى من جبل لبنان أن يسيطر على «تفاهمه» مع قوّة هي جزء من مشروع يمتدّ من غزّة الى طهران وتكون دمشق، كما دائماً، «قلبه النابض»؟
واقع الحال ان المسيحيّين إذ يصوّتون، الأحد المقبل، في المتن، فإنهم إنّما يصوّتون على صورتهم عن أنفسهم، وعن وعيهم، وعن مستقبلهم في محيطهم، قبل أيّ شيء آخر.
(الحياة)