كانت الجثة طافية على سطح نهر الأرا.
جثة شاب أحب أن يسبح في النهر السويسري المراوغ، فأبتلعه.
صدمني المشهد.
ميت يطفو على نهر، كنت أرغب في التنزه على ضفته بعد يوم واحد من عودتي من زيارة بحث ميدانية أخذتني إلى سوريا.
من بين كل المشاهد التي كنت أتوقعها، لم أتصور أني سأرى غريقاً يطفو، هكذا، كأنه خرج من قمم للعفاريت. أو أني سأتابع واجمة سيارات الشرطة والإسعاف وهي تتلاحق في الشارع، ورجلا شرطة يخلعان ملابسهما ويقفزان في الماء ليخرجاه. ثلاث سيارات شرطة وسيارة إسعاف، وكل إفراد الطاقم مهتمون بمصير رجل مات!
مات وشبع موت. وهم مهتمون بموته!
تابعت ذلك صامتة. لم أنطق بكلمة “آه”. لم انبس ببنت شفه. صامتة وعيناي تتابعان مشهداً بدا لي سريالياً.
والغريب أني شعرت بالجثة المنتفخة متسقة تماما مع مزاجي.
عكر، عكر، عكر.
لماذا؟ تسألونني؟
حسناً. ربما لأني لا زلت أحمل في نفسي بصمات زيارتي إلى سوريا.
أخذتني إليها دراستي التي أعدها عن المرأة العربية والدولة بين الشريعة والعلمانية، دراسة العمر إذا صح لي تسميتها كذلك. هناك نوع من الدراسات ما أن تبدأ فيه حتى يستحوذ عليك، وهذه واحدة منها. استحوذت علي حتى كدت أن أتنفسها.
بدأتها غير واعية، وكلما تعمقت فيها أصبحت مقتنعة أكثر أن مشكلة المواطنة في بلدان العالم العربي تبدأ من العائلة، وأن العلاقات غير المتوازنة ضمن إطارها، بين الرجل والمرأة، و البالغ والطفل، تعكس إلى حد كبير واقع الدولة لدينا، دولة أبوية، على قمتها رئيس أب، ذلك المستبد الظالم.
التقيت في تلك الزيارة بشخصيات عديدة متنوعة وثرية. تأسرك بحماسها. تخُجلك بتواضعها.
شخصيات من نوعية حنان نجمة، رياض الترك، سهير الأتاسي، دعد موسى، رزان زيتونة، خالد خليفة، ناهد بدوية، سوسن زقزق، ندى العلي، سمر يزبك، الراهبة ماري كلود نداف، أسماء كفتاروا، بسام القاضي، على العبدالله، رياض سيف، ياسين الحاج صالح، والوزيرة منى غانم… وغيرهم…
كما في اليمن، كما في السعودية وتونس، كما في كل بلد عربي، تزخر أوطاننا بمثل هذه الشخصيات. كل يعمل في مجاله، وكل له اتجاهه الفكري والسياسي والديني أو اللا ديني، لكنهم يعملون، في إطار منظمات المجتمع المدني، من داخل السلطة، أو من خارجها، في المنظمات النسائية، أو كمثقفين، ومع اختلاف اتجاهاتهم يبدو أنهم متفقون على أمر واحد: على الوطن.
رغم ذلك، مزاجي عكر.
عكر. عكر.
تسألونني لماذا من جديد؟
لأن القلة، مهما كان جهدها، لا تكفي لإصلاح الوطن. لا تكفي ما دامت الدولة تبدو تائهة. والدولة العربية تائهة اليوم. كانت دوماً تائهة، لكن توهانها يبدو سُكراً هذه الأيام. ولولا الحياء لقلت أنها تحشش صباح مساء، ثم تكمل عليها في الفجر بجرعة أفيون. تائهة لا هم لنخبتها سوى البقاء، في كراسيها.
“أنا أو من بعدي الطوفان”، أنظروا حولكم وقدموا لي استثناءا، غير سلطان عُمان أو حاكم دبي.
أنظروا من حولكم وقدموا لي دولة عربية واحدة مدنية.
مدنية فعلاً.
بمؤسساتها أو بقوانينها.
كلها دولة القبيلة، أو دولة المذهب، أو دولة الأقلية، أو دولة الطوائف، أو دولة الحديد والنار.
والطريق لا زال أمامك طويلاً شاقاً أيها العربي النبيل.
وكما الدولة، يبدو الشارع مخدراً هو الأخر. يترنح المسكين ضائعاً.
يلهث. ويجري، ثم يلهث وأنفاسه منقطعة، أما رقبته فمعلقة بحبل سميك يشده إلى السماء، اسمه ظاهرة التأسلم الشعبي.
في كل مكان أذهب إليه أجد هذه الظاهرة بكل إشكالها غير العقلانية، وخطابها المهووس بجسد المرأة وبتسفيه الآخر. كأنها لعنة أصابت مجتمعاتنا، وعقولنا من قبلها.
وسوريا ليست استثناءاً. سوريا ليست استثناءاً.
لكنها، كما مصر، زادت على التأسلم الشعبي بانكفاء أقليتها المسيحية على ذاتها، وهروبها إلى الدين هي الأخرى.
والغريب أني شعرت بصدمة لذلك. نعم. الغريب أني شعرت بصدمة لذلك.
صدمة تشبه إلى حد كبير تلك اللحظة من الذهول الصامت التي أطبقت علي عندما اصطدمت عيناي بالجثة الطافية على نهر الآرا السويسري.
جثة طافية،
منتفخة بلا حياة.
تطفو على نهر،
يجري وهو تائه.
وللحديث بقية!
elham.thomas@hispeed.ch
* كاتبة يمنية
جثة طافية! (1)
السيده الفاضله / الهام
لك التحيه..
عدد لا بأس به من الزملاء و أنا نكن لك التقدير والأحترام .. و نقف معك ضد التخلف والجهل ..
و نتمنى أن لا تؤثر تعليقات الجهلاء على ابداعاتك.. الله .. و نحن نحبك.
و الله المستعان على ما يصفون
جثة طافية! (1)والدولة العربية تائهة اليوم. كانت دوماً تائهة، لكن توهانها يبدو سُكراً هذه الأيام. ولولا الحياء لقلت أنها تحشش صباح مساء، ثم تكمل عليها في الفجر بجرعة أفيون. تائهة لا هم لنخبتها سوى البقاء، في كراسيها. “أنا أو من بعدي الطوفان”، أنظروا حولكم وقدموا لي استثناءا، غير سلطان عُمان أو حاكم دبي. لقد فهمت مقصدك بتلك الجملات هل تقصدين ان الدول العربية أغلبيتها لم تحسم امرها في نظمها وبنيتها ومؤسساتها ولذلك أغلبها تائهة ومتخبطة بينما امارة دبي قد حسمت أمرها في اقامة نموذج اقتصادي ليبرالي شامل مندمج في السوق العالمي ومنفتح على جميع أعراق وطوائف العالم وأقامت امارة دبي… قراءة المزيد ..
جثة طافية! (1)
والله صدقت يامن عقبت (طعم الثوم واحد)
ما رأيكم يا مثقفي عمان ودبي بتقريض الدكتورة بنت سد مأرب؟: ” أنظروا حولكم وقدموا لي استثناءا، غير سلطان عُمان أو حاكم دبي “… حسنا هل تريدين سيدتي أن تقولي لنا بأن هذين البلدين ينعمان بالديموقراطية الحق؟ لم أعثر في أي جرد لخريطة الديموقراطية في بلدان العالم، على إسمي ” سلطان ” عمان – لاحظي أن الاسم يحيل على السلطة والسلطنة و ربما التسلط – ولا ” حاكم ” عمان – لاحظي أيضا سيدتي الكاتبة ” التي تتنفس دراستها عن سوء أحوال المرأة العربية، ضحية المجتمعات الأبوية، أن هذا اللقب أيضا، يُحيل على التحكم – اللهم إذا كانت لها –… قراءة المزيد ..
جثة طافية! (1): ” أنظروا حولكم وقدموا لي استثناءا، غير سلطان عُمان أو حاكم دبي “… حسنا هل تريدين سيدتي أن تقولي لنا بأن هذين البلدين ينعمان بالديموقراطية الحق؟ لم أعثر في أي جرد لخريطة الديموقراطية في بلدان العالم، على إسمي ” سلطان ” عمان – لاحظي أن الاسم يحيل على السلطة والسلطنة و ربما التسلط – ولا ” حاكم ” عمان – لاحظي أيضا سيدتي الكاتبة ” التي تتنفس دراستها عن سوء أحوال المرأة العربية، ضحية المجتمعات الأبوية، أن هذا اللقب أيضا، يُحيل على التحكم – اللهم إذا كانت لها – أي الكاتبة المحترمة إلهام مانع – مبررات موضوعية… قراءة المزيد ..