يخشى الراسخون في الديموقراطيّة الجيوش، ويخشون خصوصاً تمجيد العسكر وسائر الفولكلوريّات التي تتّصل بذلك.
وهم، في هذا، على حقّ. فاللغة لم تخطئ حين جعلت العسكريّ نقيض المدنيّ، والمدنيّةُ شرط الحياة السويّة قبل ان تكون شرط الحياة الديموقراطيّة.
وحكم العسكر، في كلّ زمان ومكان، تهديد للحياتين السويّة والديموقراطيّة. كما ان بناء الشرعيّة السياسيّة على حكم الجيش واستخلاصها من سيطرته، أقرب الى سدّ الطريق في وجه السياسة وفي وجه التقدّم والمستقبل.
ثم ان رفض العسكر جزء لا يتجزّأ من رفض القوّة وتحكيمها في علاقات البشر. ورفض كهذا هو البيئة الصالحة كي ينمو الفرد الحرّ الواثق بفرديّته، الطامح الى تعزيزها. فيه تزدهر الثقافة، والثقافة حريّة وخيار، ومنه تطلع الأفكار، والأفكار تعدّد وأمزجة.
لكن هذا لا يصحّ في جيش لبنان وفي معظم الجيوش الصغرى لبلدان صغرى تشبه لبنان في تركيبها. فهذا الجيش انعكاس اللقاء والتضافر بين طوائف لبنان، فحين لا تلتقي الطوائف وتتضافر لا يكون جيش. وما يعنيه ذلك ان الجيش المذكور خادم المجتمع، لا سيّده، وهو خادمه في أكثر لحظات المجتمع سعةً وتمثيليّةً وقرباً من السويّة الصحيّة. فهو، من ثم، دفاعيّ الطبيعة لا هجوميّها. ولهذا استحال ويستحيل الانقلاب العسكريّ في لبنان الذي هو “قبض على ريح” كما وصف كمال جنبلاط انقلاب القوميّين السوريّين في آخر ليالي 1961. ولهذا أيضاً فكّرتْ تنظيمات طائفيّة كثيرة، في مراحل مختلفة، في أن تتحوّل تنظيمات موازية للجيش، بميليشياتها تنفّذ من المهمّات ما يمنعه تركيبه المختلط وكونه مرآة لتعدّد المجتمع اللبنانيّ من تنفيذه.
فهو حارس الإجماعات التي يتوصّل اليها شعبه، فحين يُسدّ الباب أمام الإجماع يُسحَب منه التفويض. وحين يغدو الإجماع قويّاً، على ندرة ذلك، يقوى دور الجيش، على ما حصل في العهد الشهابيّ. إلاّ أن قوّته، وكانت فائضة يومذاك، لا تُقارَن البتّة بقوّة “الجيش العقائديّ” في جواره الشماليّ والشرقيّ، أو “جيش الدفاع” في جنوبه.
لكنه كبُنية حديثة أرقى من مكوّنات هذا الإجماع، أي أرقى من الطوائف والعشائر، وبالطبع أكثر بكثير تعدّداً من صفائها، حتّى ليجوز التمنّي، وهو فعلاً تمنٍّ لا يسنده واقع، لو يحكم الجيش ويُحلّ الاستقرار على حساب الطوائف والعشائر و “جيوشها”.
فحين يحظى الجيش بالتأييد لا يكون ذلك تأييداً للحروب، ولا لعسكرة الحياة العامّة، بل لوحدة بلد ممنوعة عليه الوحدة، ولاستقرار هو شرط لبنان الشارط وعلّة وجوده.
ولنتذكّر طبيعة الأطراف التي اصطدمت بالجيش، أو اصطدم بها، في تاريخ لبنان الحديث: من القوميّين السوريّين الى “فتح الإسلام”، ومن عشائر موغلة في رفض السلطة المركزيّة الى منظّمات مسلّحة، لبنانيّة وفلسطينيّة مدعومة دائماً من سوريّة، ترفض مبدأ الدولة أصلاً. والآن، ربّما افتتح الإرهاب ضدّ “اليونيفيل” دوراً لـ “قاعدة” ما يصعب التقليل من شأنه وخطره.
ولنتذكّر، أيضاً، أننا نعيش في منطقة لا تحترم إلاّ القوّة، وفي أحطّ أشكالها وأكثرها وحشيّة. فلا يعنيها شيء آخر ولا يجذبها نموذج ناجح، أو تعاقد بين أطراف حرّة، أو صغر بلد يحاول بالدور أن يعوّض تلك الضآلة.
ولنتذكّر، أخيراً، أن لا خوف من العسكرة في لبنان، بل الخوف من الفوضى. فالعسكرة أربابها خارج البلد الصغير، ترعرعوا في مهود الانقلاب وحكموا، ولا زالوا، بقوّة البندقيّة، والبندقيّة وحدها، مُصوّبينها على رأس شعبهم، وعلى رأس شعبنا، وجيشنا أيضاً.
أما الجيش الذي واكب “قوّة لبنان في ضعفه” ونما في جوارها، فبطلٌ مضادّ يشبهنا، نحن الذين نفرّ من البطولة وتفرّ هي منا.
* نقلاً عن جريدة “الحياة” اللندنية