الصعود السريع والقوي للإسلام السياسي في الجزائر، ارتبط بتفاقم الأزمة البنيوية للدولة والمجتمع في الآن معا، والتي تعود جذورها إلى ما قبل يونيو/ حزيران 1991 حين فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات البلدية وعلى مستوى الولايات ثم فوزها في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه. وما أعقبها من تدخل المؤسسة العسكرية، بدعم من بعض التيارات والأحزاب العلمانية، لإجهاض نتائج جولة الانتخابات ثم حظر نشاط جبهة الإنقاذ وإيداع قادتها السجن بعد اندلاع إعمال العنف المسلح ابتداء من يناير/ كانون الثاني .1992
الأسئلة التي تطرح نفسها هنا: ما مدى مسؤولية كل من السلطة والمعارضة الإسلامية – آنذاك – في إيصال الجزائر إلى الحالة المزرية التي لا تحسد عليها؟ وما هي السبل الذي اعتمدت لإخراج المجتمع والدولة من النفق المظلم الذي حوى الجميع؟ وما هي الدروس والعبر المستخلصة من التجربة الجزائرية؟.
الجزائر تحررت بسواعد شعبها، الذي قدم تضحيات أسطورية (مليون ونصف مليون شهيد) من اجل طرد الاحتلال والاستعمار الفرنسي الذي دام أكثر من 130 عاما. سعت فرنسا خلالها إلى إحكام قبضتها على مقدرات شعب الجزائر، الذي اعتبر بمثابة الإقليم الجنوبي لفرنسا على الضفة الأخرى من المتوسط، وجهدت في اقتلاع مقوماته الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، وسلخ هويته الثقافية واللغوية.
غير أن هذه السياسة اصطدمت بمقاومة متصاعدة من الشعب، الذي عبر عن رفضه لسياسة الاحتواء والتذويب من خلال المقاومة المسلحة، والتأكيد على هويته الخاصة بأبعادها الدينية والثقافية والوطنية، وقد تكلل هذا النضال بانتزاع الاستقلال عن فرنسا سنة ,1962 ومثل ذالك الحدث احد المآثر البطولية للشعوب العربية ولبلدان العالم الثالث قاطبة. ومثل كثير من الأنظمة المستقلة والمتحررة من ربقة الاستعمار، فقد وضعت خطط التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، واستعادة الثروات الطبيعية من قبضة الاحتكارات الأجنبية، والتأكيد على تطبيق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية. وبدت الجزائر خصوصا في عهد الرئيس هواري بومدين، من أكثر الأنظمة في بلدان العالم الثالث استقرارا في الداخل وتأثيرا على الصعيد الخارجي في إطار حركة عدم الانحياز ومساندة ودعم حركات التحرر في العالم. وقد تحققت خطوات ومنجزات مهمة، على المستوى الاقتصادي والتنموي والاجتماعي خصوصا بعد ارتفاع العائدات من النفط والغاز بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 مثل بقية الدول النفطية الأخرى، غير أن قوة الدفع والتقدم، سرعان ما فقدت زخمها وتلاشت، مفسحة الطريق أمام تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا اثر تراجع أسعار النفط منذ مطلع الثمانينات. فقد عانى القطاع الاقتصادي ‘’القطاع العام’’ الجزائري الذي تتحكم فيه الدولة سوء الإدارة والتخطيط، وتفشي البيروقراطية والفساد والرشاوى والمحسوبية ، وبما أن النموذج السوفيتي كان يعتبر المثال الذي على البلدان المتحررة أن تحذو حذوه، لذا فإن الاقتصاد الجزائري، عانى سلبيات وإخفاقات التطبيق البيروقراطي للنموذج السوفيتي، ولم يستطع أن يستفيد من المزايا الايجابية له.
الأخبار والمعلومات الواردة حديثا عن الوضع الداخلي في الجزائر، وخصوصا على الصعيد الأمني، تفيد بتجدد الاشتباكات والاعتداءات المسلحة التي تبنتها الجماعة السلفية للدعوة والقتال، أو ما يسمى تنظيم ‘’القاعدة في المغرب الإسلامي’’، والتي ذهب ضحيتها جنود ومدنيون وأجانب. هذه الحوادث والأعمال الإرهابية على محدوديتها حتى الآن، تعيد إلى الأذهان مسلسل العنف الدموي، الذي طبع الوضع في الجزائر منذ يناير العام 1992 واستمر سبع سنوات، وعلى غرار تلك الأحداث، لا يمكن عزل تدهور الحالة الأمنية حديثا، عن الأوضاع والبيئة السياسية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية السائدة.
وما يحدث من تجاذب، واحتقان، وتنافس، وتنافر بين التيارات، والكتل السياسية، ومراكز القوى المختلفة، وفي مقدمتها مؤسسة الجيش ذات النفوذ القوي. ومن بين تلك القضايا مثار الخلاف التوجه نحو تعديل بعض بنود الدستور، لإتاحة المجال أمام الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الترشح لدورة رئاسية ثالثة، حيث يتردد عن معارضة الجيش لهذه الخطوة التي تخل كما يقال بالاتفاق المبرم بينهما سابقا. هذه الأوضاع المستجدة على الساحة الجزائرية، وخصوصا إثر الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أسفرت عن فوز قائمة حزب جبهة التحرير الوطني وحلفائها بغالبية المقاعد، غير انه في الوقت نفسه أوضحت عزوف و لامبالاة غالبية الجزائريين من المشاركة فيها (35% فقط نسبة المصوتين) وهو ما شد انتباه المراقبين والمهتمينل لتحليل ورصد ما يحدث من تطورات وأحداث في ذلك البلد العربي الإفريقي المهم، وانعكاساتها على دول الجوار، وأفاق الحوار والتعاون الأوربي/المتوسطي، والمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، ناهيك عن مستقبل العلاقات المغاربية في ضوء استمرار النزاع ومظاهر الشد والجذب في العلاقات المغربية / الجزائرية بشأن موضوع الصحراء الغربية. تلك الأوضاع المتداخلة والمعقدة ستقرر إلى حد بعيد مستقبل وآفاق الجزائر في المنظور القريب والمتوسط. والسؤال هنا: هل تمثل الحوادث الإرهابية الأخيرة، بداية عودة دوامة العنف التي شهدتها الجزائر، أم إنها ظاهرة مؤقتة سيجري احتواؤها والتغلب عليها سريعا؟.
في هذا السياق من المهم التذكير بالأوضاع السلبية والخطيرة التي سادت الجزائر في مرحلة سابقة وكادت تعصف بوجوده واستقراره، واستخلاص الدروس والعبر منها سواء ما كان يتعلق منها بالوضع الجزائري أو الأوضاع السائدة المشابهة في كثير من البلدان العربية. لقد أد تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر خصوصا اثر تدني وانخفاض أسعار البترول منذ أوائل الثمانينات، إلى جانب استمرار احتكار قلة من الفئات المتنفذة لمكونات السلطة والقوة والثروة، وما نجم من ممارساتها التي اتسمت (باعتراف أقطاب بارزة في الحكم والمعارضة على حد سواء) في تلك المرحلة، بالاستبداد ومصادرة المجتمع المدني، وسوء الإدارة، والتبذير، والفساد وتفيد بعض المعطيات أن أكثر من 20 مليار دولار من المال العام تم الاستيلاء عليها أو أنفقت بشكل غير مشروع،.
كل ذلك عمّق الفوارق الاجتماعية والطبقية وأدى إلى تدهور للأغلبية الساحقة من الناس، بما في ذالك الطبقة الوسطى التي تراجعت إلى مستوى الطبقات المسحوقة والمهشمة بسبب التضخم، وارتفاع الأسعار والبطالة وتدني الأجور وانخفاض العملة. ووصلت نسبة البطالة إلى أكثر من 30% من مجموع القادرين على العمل، في بلد يشكل الشباب تحت سن 25 عاما قرابة 75% من سكانه من دون بارقة أمل في إيجاد حلول ملموسة لأوضاعهم، حيث يعيش قرابة 28% من عدد السكان تحت خط الفقر، كما تراجعت القوة الشرائية لدى المستهلك بنسبة 50%. يحدث هذا في بلد يملك الكثير من الموارد والثروات الطبيعية والبشرية وترافق مع كل ذلك وصول الديون المستحقة على الدولة إلى نحو 33 مليار دولار. في ظل تلك الأوضاع المتردية اندلعت التحركات الشعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 1988 ما اضطر الرئيس الجزائري آنذاك الشاذلي بن جديد إلى الانحناء أمام العاصفة، والقيام بمراجعة شاملة على المستويين السياسي والاقتصادي.
na.khonaizi@hotmail.com
صحيفة الوقت البحرينية 31مايو 2007